لن ينسى الشعب الأذربيجاني تاريخ 12 ديسمبر عام 2003 على الإطلاق، حينما واجه حقيقة مريرة وحزينة، الا وهي رحيل الزعيم الوطني حيدر علييف، رجل الدولة والسياسة الذي جاد بكل ما كان يملكه من الخبرة والتجربة المتراكمة في غضون تقلده المناصب العليا في السلم الوظيفي السوفييتي في باكو وموسكو على حد سواء من أجل وطنه وشعبه. ولا غرو أن هذه الشخصية الضخمة وضعت الأسس والبنيان المتين لجمهورية أذربيجان الحديثة بعد إستقلالها عن الإتحاد السوفييتي.
من جهة أخرى، أنقذ القائد العظيم حيدر علييف دولته وشعبه من خطر الزوال والإبادة على أيد المعتدين الأرمن وعملاءهم. وفور التوصل للهدنة مع أرمينيا المحتلة وبسط الإستقرار والأمن الداخلي، أطلق عنان النمو الشامل في كافة القطاعات، مما أدى الى الإرتقاء بمستوى الرفاهية واليمن لأبناء شعبه الغالي وبناء الجيش القدير وتبوؤ أذربيجان المكانة المتقدمة عالميا من حيث النمو الإقتصادي والإجتماعي وتوفير جميع الحقوق الأسياسية للمواطنين خلافا لأرمينيا.
فلذلك، يعتبر الشعب الأذربيجاني زعيمه القومي رمزا يفتخر به وتعبيرا عن الولاء لهذا القائد العظيم وإجلالا له، خلّد ذكرى رحيله من خلال إحياءها في 12 ديسمبر من كل عام.
كالمعروف، لقد ولد حيدر علي رضا أوغلو علييف في 10 مايو عام 1923 من عائلة عاملة في مدينة نختيشوان العريقة في أذربيجان التي تعد عن حق الحاضنة لقادة عظماء وأدباء ومفكري ومعماريي أذربيجان الذين أثروا التاريخ الأذربيجاني بالعلم والمعرفة ومعطيات الحضارة.
وتخرج الزعيم الوطني حيدر علييف من دار المعلمين الابتدائية، وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره قدم إلى باكو والتحق بمعهد الصناعة الأذربيجاني ليصبح معمارياً، وبعد ذلك التحق بكلية التاريخ بجامعة أذربيجان الحكومية وتخرج فيها عام 1957، ثم تخصص في مجال الأمن حيث تم تعيينه في عام 1964 في منصب نائب رئيس لجنة أمن الدولة لدى رئاسة الوزراء في جمهورية أذربيجان برتبة لواء، وتم تعيينه رئيساً للجنة في عام 1967 وشكل ذلك حدثاً تاريخياً لكافة أبناء الشعب الأذربيجاني حيث لم يسبق أن تصبح شخصية أذربيجانية في مثل هذا المنصب إبان حكم الاتحاد السوفياتي السابق.
في يوليو عام 1969 جرى انتخاب القائد العظيم حيدر علييف سكرتيرا أول للجنة المركزية للحزب الشيوعي الأذربيجاني، ومنذ تلك اللحظة، أصبح قائداً لجمهورية أذربيجان بموجب الأنظمة والقوانين المتبعة في ظل الحكم السوفياتي واستمر في قيادة الجمهورية حتى عام 1982.
قد أدرك الزعيم القومي أن الاستثمار الحقيقي يكمن في فئات الشباب، فهم قادة المستقبل والثروة الحقيقية لأي أمة، ومن هنا كانت من أهم أولوياته تأمين التعليم للشبات وتمثل ذلك لهم في إنشاء المعاهد والجامعات المتقدمة في الاتحاد السوفييتي السابق، وقد أصبحوا الآن علماء وأساتذة يساهمون في نهضة بلادهم.
في ديسمبر من عام 1982، أنتخب القائد العظيم عضواً للمكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي المتكون من 21 عضواً. كما شغل منصب النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء للاتحاد السوفياتي. وقد شكل ذلك نقلة نوعية في تدرجه السياسي. وأصبح الزعيم الوطني حيدر علييف على مدى 20 سنة نائبا لمجلس السوفييت الأعلى لإتحاد الجمهوريات الإشتراكية السوفييتية وظل عضوا له لمدة 5 سنوات. حان أكتوبر عام 1987 الذي بشّر بإستقالة حيدر علييف من كل مناصبه عقب معارضته للسياسة التي كان ينتهجها المكتب السياسي للحزب الشيوعي وأمينه العام ميخائيل قورباتشوف على وجه الخصوص.
وبعد إستقالته، توجه القائد العظيم حيدر علييف الى مسقط رأسه وهو جمهورية ناختشيوان ذات الحكم الذاتي التابعة لجمهورية أذربيجان التي كانت أنذاك معزولة عن الدول المجاورة مثل تركيا وإيران نتيجة السياسة السوفييتية ومعرضة لمحاولات الإحتلال من قبل الجارة الأرمينية. وتمسكا بمصالح الجمهورية ذات الحكم الذاتي والسكان المحليين على حد سواء، تجرأ حيدر علييف على فتح الحدود مع الجارتين التركية والإيرانية مهما كلف الأمر. لقد أسفرت هذه الخطوة المبنية على الشعور الوطني والمحفوفة بالمخاطر المباشرة عن إنتعاش الحالة الإقتصادية وتوفير فرص عمل كثيرة لأهل ناختشيوان وإعادة له الحرية والعزة والكرامة بعد فترة عسيرة من الأزمات الإقتصادية والإجتماعية الخانقة.
بينما كانت الأحداث في العاصمة باكو تتداعت بسرعة الى الأسواء، مما دفع سكان العاصمة بشكل خاص الى الإستغاثة بالزعيم الحكيم لناختشيوان، لكي يخلصهم من كل ما يحيطهم من أخطار تنذر بالتفكك والإنهيار. في يونيو عام 1993، إختار الشعب الأذربيجاني حيدر علييف رئيساً للمجلس الأعلى (برلمان) لجمهورية أذربيجان. وبقرار من البرلمان بدأ ممارسة صلاحيات رئيس الجمهورية. وتلا ذلك تنظيم الإستفتاء العام في أكتوبر من من العام نفسه، الذي خرج بإنتخاب الزعيم الوطني رئيساً للجمهورية. وتم إعادة انتخابه في الانتخابات الرئاسية الثانية التي جرت في أكتوبر عام 1998 لفترة رئاسية جديدة حتى رحيله في 12 ديسمبر عام 2003.
وعندما عهد الشعب الأذربيجاني الى قائده العظيم حيدر علييف بمقاليد الأمور، تمكن الزعيم الوطني من إستعادة بعض الأراضي السليبة التي إحتلتها أرمينيا. ولكنه نظرا للظروف الإقتصادية والسياسية القاسية، لم يستطيع أن يكمل تحرير بقية الأراضي المغتصبة وأضطر الى توقيع إتفاقية الهدنة مع أرمينيا المحتلة. وعلى أثر إبرام الإتفاقية، سارع القائد العظيم الى بناء الدولة والجيش الوطني القدير من البداية.
على صعيد السياسة الخارجية، فإنضمت أذربيجان الى المنظمات الدولية المرموقة وأعقب ذلك إفتتاح البعثات الدبلوماسية في الخارج التي أفلحت في تنفيذ التعليمات العليا من القائد العظيم نحو إفشاء حقائق الأمور والأوضاع في أذربيجان، مما آتى بفضح الحيل الأرمنية أمام القارة الأوروبية على أنها دولة مغلوبة على أمرها أمام أذربيجان المعتدية والظالمة. لقد صدرت عن مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للمنظمة الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي وحركة عدم الإنحياز، خاصة في قمتها الأخيرة التي إنعقدت في باكو فيما بين 25-26 أكتوبر عام 2019 عدة قرارات تطالب بإنسحاب القوات المسلحة الأرمنية من كافة الأراضي الأذربيجانية المحتلة، غير أن السلطات الأرمنية تضرب بها عرض الحائط ولا تكتثر بتنفيذها ولو حرفا واحدا.
لقد عكف القائد العظيم حيدر علييف خلال الحياة الجديدة لأذربيجان المستقلة والحرة على إقامة العلاقات القوية مع دول العالم، بما فيها مع العالم الإسلامي الذي تكون أذربيجان جزء لا يتجزأ منه وذلك بناء على مبدأ الإحترام المتبادل لسيادة الدول ووحدة أراضيها وسلامة حدودها المعترف بها دوليا وعدم الدخول في شؤونها الداخلية. وقد نجح في هذا المضمار، خاصة فيما يتعلق بالإعتراف الدولي بإحتلال اقيلم قاراباغ الجبلية والمناطق السبع الملاصقة له من قبل القوات المسلحة التابعة لأرمنيا المجاورة وتبعية تلك الأراضي لجمهورية أذربيجان. والمملكة الأردنية الهاشمية ليست بالبعيدة عن الدول الداعمة للقضية العادلة للشعب الأذربيجاني، ما يُقدر في أذربيجان تقديرا عاليا من طرف الشعب والقيادة.
لقد عمل القائد العظيم حيدر علييف طوال فترة رئاسته على تعزيز سيادة واستقلال ووحدة أراضي جمهورية أذربيجان، إنطلاقا من قناعته الثابتة بأن "الحصول على الإستقلال أسهل من الحفاظ عليه". وقد بات عهده حقبة التغيرات والتحولات الجذرية في طريق بناء الدولة الحديثة ضمن أسس واضحة ومحددة، وبذلك دخلت أذربيجان بقيادته مرحلة جديدة من تاريخها المعاصر وأصبحت دولة فاعلة في المجتمع الدولي ولفتت أنظار العالم إليها في منطقة القوقاز المطلة على بحر قزوين. وشهدت أذربيجان تطوراً اقتصادياً هائلاً معترف به عالمياً مستفيدة من الثروات الطبيعية التي يملكها هذا البلد إبتداء من الكوادر الأكفاء وصولا الى النفط والغاز والمعادن وغيرها.
ومثل رحيل الزعيم الوطني حيدر علييف في 12 ديسمبر عام 2003 إحدى أشد اللحظات حزنا وكدرا وصدمة في تاريخ البلد. لقد فقد أبناء شعبه العزيز رجل الدولة ذا البأس وثقب البصر والقريحة الوقادة، الذي ما إنقطع للحظة عن التفكير المتمعن في أمور تضمن خلودا لإستقلال بلاده الغالية ومستقبلا مشرقا لشعبه الثمين.
اليوم يجني الشعب الأذربيجاني ثمارا إنبثقت عن النجاحات التي حققها الزعيم الوطني على جميع الأصعدة مثل الإقتصاد والتعليم والصحة والرعاية الإجتماعية وتمضي قدما نحو المزيد من المنجزات بفضل السياسة المتروية التي يمارسها فخامة/ إلهام علييف، رئيس جمهورية أذربيجان والمبنية على النهج الحكيم الذي كرس له القائد العظيم حيدر علييف والذي سوف تظل نجاحاته الفريدة في كافة المجالات في ذاكرة الشعب الأذربيجاني الشاكر. كما لن يزول عن الصفحات التاريخية دولة أذربيجان المستقلة مجيء القائد العظيم في الوقت الذي كان شعبه الحبيب يتلمس طريقه ويبحث عن بارقة من الأمل وكان وطنه مستباحا بحكم التدخلات الأجنبية في شوؤنه.
ويستديم النهج الحكيم للزعيم القومي حيدر علييف الذي لا يزال يأتي بتجلياته الإيجابية، تحت قيادة فخامة/ الرئيس إلهام علييف الذي زادت سياسته الخارجية المتوازنة وإصلاحاته الديموقراطية والاقتصادية الثابتة من سمعة أذربيجان دوليا وجعلت منها دولة رائدة إقليميا وشريكا موثوقا فيه في العلاقات الدولية.