بقلم العقيد م. الدكتور عامر العورتاني
أخصائي علم اجتماع الجريمة
الجزء الأول
الحياة هبة من الله سبحانه وتعالى أنعم بها على عباده ، وإنّ على الإنسان أن يدرك معنى الحياة ويقدر قيمتها ، وقد وُجد الإنسان في هذه الحياة ليكابد مصاعبها ويخوض عقباتها ويصارع تحدياتها عبر مراحل حياته المختلفة ، وهو ما يؤدي إلى أن يعيش البشر في معاناة تنتهي غالباً بتفوقهم على تلك الصعوبات ، وتخطيهم تلك الأمواج المتلاطمة من الألم والمعاناة التي ترافق تحديات الحياة ، لتبدأ مرحلة جديدة تُختبر فيها قوّة الفرد فيجد نفسه أكثر قدرة على التعامل مع التحديات الجديدة في ضوء رصيده من الخبرات السابقة ، إلاّ أنّ البعض ممن يعانون في مرحلة من حياتهم من الألم النفسي الناتج عن فقدان عزيز أو فشل في العلاقات أو ممارسات الإقصاء الاجتماعي ، يُقدمون على مواجهة أنفسهم بسلوك عدواني ، ومما لا شك فيه أنّ الفرد في مثل هذه الحالة يكون قد أخفق في التعبير عن نفسه لظروف اجتماعية مانعة وعوامل أخرى ضاغطة ، ما جعله يعكس مشاعره نحو الداخل باتجاه الذات محاولاً تدميرها ، وبالعودة أكثر إلى الوراء فإنّ تفاصيل المشهد تتضح عبر رصد ما مرّ به من مشاعر الرفض أو النبذ أو عدم الاستقرار في مرحلة الطفولة ، وبالرغم من أنه نجح في تطوير آليات دفاعية ضد آلامه في مرحلة ما ، إلاّ أنّ تكرار الرفض أو الفشل أو العزلة أعاقت عمل هذه الآليات في النهاية ، وفقد هذا الشخص تقديره لذاته حتى تلاشى شعوره بها ، فتحولت مع الوقت إلى عدو حقيقي ينبغي القضاء عليه ، فلم يعد لديه معنى للوجود أو رغبة في الاستمرار ، ولم تظهر له الحياة بصورة الفرصة الثمينة التي ينبغي استغلال كل لحظة فيها لبناء ذاته واستغلال إمكاناته ، وبات يحيا تحت لعنة صخرة سيزيف بلا معنى للحياة ودون جدوى من النضال في سبيل واقع أفضل .
يعتبر ايميل دوركايم أشهر من تناول هذا السلوك بالدراسة العلمية ، ليلقي الضوء على جوانبه النفسية والاجتماعية في مؤلفه الموسوم ب " الانتحار " ، وإنّ العوامل التي تؤدي إلى الانتحار متعددة وتتصف بالتراكمية بطبيعتها ، فمعظم حالات الانتحار ناشئة عن نوبات الاكتئاب المسبوقة بالقلق واليأس الشديدين ، وهو ما قد يؤدي في بعض الأحيان إلى ألم نفسي غير محتمل بالنسبة لبعض الحالات ، عندها فإن فكرة الانتحار تصبح بؤرة تفكير لذلك الشخص البائس إلى أن ينفذ فكرته بعد أن تخطت آلامه النفسية قدرته البشرية على التعامل معها .
والحقيقة أن قدرات البشر في طريقة التفاعل مع ظروف الحياة وضغوطاتها ليست متساوية ، وهو ما يرجع بالأساس إلى أنّ مشكلة الانتحار ذات صلة وثيقة بالاضطرابات النفسية والسلوكية ، وتمثل مشكلة ذات أبعاد اجتماعية وإنسانية ودينية واقتصادية تمس كيان الإنسان والمجتمع بأسره بما تُخلّفه من تبعات ، وفي كثير من الأحيان يصعُب تفسير سلوك المنتحر الذي يتجاهل بشكل تام وجود غدٍ أفضل يحمل معه أملاً بتحسن الأوضاع ، فهو إن لم تُقدم له المساعدة المطلوبة ينظر إلى الانتحار باعتباره وسيلة لإيقاف الألم ، وهو يجهل أنّ كل ما يفعله هو تمرير الألم لمن تركهم خلفه ، وهم يتجرعون كؤوس الحسرة والحزن والوصم .
يتبع....