صدر لأستاذ اللسانيات التطبيقية بالجامعة الهاشمية الدكتور عيسى برهومة كتاب "الثقافة والهوية والقيم في مقررات العربية لغير الناطقين بها" عن دار كنوز المعرفة بعمان ويمثل هذا الإصدار إضافة جديدة في موضوع بِكر في اللسانيات التطبيقية، جَهِد المؤلف أنْ يتفحّص بأدوات بحثيّة سابرة المحمولات القِيميّة والسياسيّة والثقافيّة، التي تنتظمُ مُقرّرات تعليم اللغة العربيّة لغةً ثانية، إذ تنطلق هذه الدراسات جميعًا من مفترض معرفيّ مؤدّاه أنه لا يمكنُ أن ينبتَّ الخطاب التعليميُّ عن الاشتباك المُنظّم الواعي أو غير الواعي مع مفرداتٍ أو محمولاتٍ أخلاقيّة وسياسيّة وثقافيّة، مقصودة بعينها، أو غير مقصودة، فاللغة تشتبك، لا ريب، بالمعرفيّ والثقافيّ والسياسيّ في حالاتها المُختلفة، وعلائقُها أو اشتباكاتُها هذه، قد غدت مع تقادم السنين، حقيقة مُقرّرة، لا جدال فيها، في أغلب المدرسيّات اللسانيّة لا مُرية أو شك فيها.
وتسعى الدراسات التي يتضمّنها هذا الكتاب إلى استشفاف تمثيلات الهُويّة العربيّة والثقافة الإسلاميّة والقيم الإنسانيّة في مُقرّرات اللغة العربيّة لغير الناطقين بها، والبحث في المعايير التي تنظّم عمليّة طرحها في هذه المُقرّرات، فضلًا عن تقديم تقييم منهجيّ لهذه المُقرّرات، وعليه فإن هذه الدراسات في وجهٍ من وجوهها إنّما هي تَكشافٌ عن حالة التأليف العلميّ في مجالات اللغة العربيّة، وأسباب العشوائيّة التي تكتنف مشاهد التخطيط اللغويّ العربيّ.
وهي كذلك معنيّة باقتراح معايير تُبنى من خلالها صور هذه الخطابات بتحقُّقاتها المتنوّعة، في المُقرّرات، بصورة مُتّزنة، لا تطغى فيها بعض تمثيلات الهُويّة العربيّة والثقافة الإسلاميّة وتجلّيات القيم الإنسانيّة على بعضها الآخر، فتكون تعبيرًا صادقًا وأمينًا ومتوازنًا عن تصوُّرات الأمة العربيّة والإسلاميّة تُجاه ذاتها أولًا، ومن ثم تجاه القضايا الإنسانيّة الكُبرى.
ويُذكر أن بحوث هذا الكتاب قد صدرت عن مجلات علميّة مُحكّمة؛ فهي محاولة منضبطة ومنهجيّة حاولت أن تُسهم في تحرير الدرس اللسانيّ من إسار خطاب التنظير، والانطلاق به إلى مراحات الدّرس التطبيقيّ، التي تمثل مباحث اللسانيّات التطبيقيّة خير تمثيل له، وهي إلى ذلك تؤدّي وظيفة تقييميّة، يُمكن أن تتجلّى في إعادة تقييم هذه المناهج، والكشف عن محمولاتها الموضوعيّة والفكريّة والأيديولوجيّة، بغية إرشاد المنشغلين بمباحثها إلى سواء السبيل في تأليف مُقرّرات اللغة العربيّة لغة ثانية لغير الناطقين بها، وإنباههم إلى ضرورة مُراعاة خطابَيْ الهُويّة والثقافة في هذه المناهج، بصورة لا يعتورها نقص أو قصور.
وقد بيّنت دراسات الكتاب أن مُقرّرات اللغة العربيّة لغير الناطقين بها لا تؤلَّف وفقًا لمعايير ضابطة، أو شروط مُعينة، وآية ذلك أن الخطاب القيميّ، الذي تمثّله الهُويّة والثقافة، في هذه المُقرّرات، يتلفّع بالعشوائيّة، وعدم الانضباط، ممّا يجعل من بناء هذه المُقرّرات بناء مختلًا من الناحية الفكريّة والقيميّة على حد سواء، بوصف اللغة والفكر والقيم أقانيم تتشابك فيما بينها تشابكًا لا يمكن أن يُفَضّ بحال من الأحوال، وبوصف هذه المُقرّرات حاملة لهذه اللغة، ولكن دونما قدرة على التعبير عنها، أو عن خصائص الناطقين بها، فقد اتّضح أنّ المنشغلين بتأليف هاته المُقرّرات لا يلتفتون إلى الوظيفة التواصليّة التي تؤدّيها اللغة بوصفها ما تنفكُّ حاملة للفكر، وإنما يتعاملون معها مبنيّة على عديد السياقات والأدوار والوظائف التي تؤدّيها أي لغة من اللغات.
وقد كشفت هذه الدراسات عن أوجه من القصور في طرح خطاب الهُويّة العربيّة والثقافة الإسلاميّة والقِيَم الإنسانيّة في هذه المُقرّرات، فقد بيّنت هذه الدراسات أن واضعي المُقرّرات موضع الدراسات ركّزوا على مضامين مُعينة، وقِيَم مُختارة، جاءت نسب تكراراتها عالية، في حين أنهم همّشوا صورًا أخرى، فجاءتْ نسب تكراراتها مُنخفضة.
ولا ريب أن هذه الدراسات إنما تعكس قَسَمات الحالة العامّة لسياسات التخطيط اللغويّ في العالم العربيّ، بما تتضمّنه هذا السياسات، إن كان ثمة سياسات، من عشوائيّة، وقُصور، وفرديّة، ولذا فإن هذا الكتاب ليأمَلُ أن يلفت أنظار المُنشغلين بتأليف مُقرّرات العربيّة عمومًا، ومُقرّرات اللغة العربيّة لغير الناطقين بها خُصوصًا، إلى لزوب إعادة النّظر في مناهجهم، وخُططهم، وطرائقهم في إعداد هذه المُقرّرات، بما يتساوق وهُويّة الأُمّة العربيّة، وثقافتها، بوصف هذه المُقرّرات تعبيرًا عنها على أيّة حال من الأحوال.
وعليه، فإنّ هذه الدّراسات ليستْ سوى إلماعات موجّهة إلى المُنشغلين بالتربية وأساليب التدريس إلى ضبط بناء مُقرّرات العربيّة والمناهج الأخرى وفقًا لمناهج ضابطة، ومناهج واضحة، تُفيد من العلوم الحديثة، في بناء مُقرّرات العربيّة للناطقين بها أو للناطقين بغيرها على السواء، فضلًا عن إعادة النظر في سياسات التخطيط اللغويّ، ورسم مناهج واضحة لبناء المُقرّرات العلميّة في جُلّ فروع اللغة العربية.