ونحن نستذكر مئوية الدولة ينتابنا شعور بالفخر والاعتزاز باالتضحيات التى قدمها أبناء العشائر الأردنية ونحن نعلم علم اليقين أنّ الإسلام دين الفطرة، وفطرة الإنسان هنا تكمن عندما يولد، وتصبح لها درجات في سلم الولاء وفي سلم الانتماء، ويعني أي إنسان يشعر بقدر من الانتماء إلى عائلته الصغرى، إلى أولاده، إلى أهله، قدر كبير جداً من هذا الانتماء، ويشعر في مرحلة أعلى أو ثانية بأنّ له انتماء وولاء حقيقي ومحبة للوطن الذي يعيش في وسطه ويندمج في كوامنه، كما ويشعر بقدر من الولاء والانتماء إلى من يتكلمون معه نفس اللغة، ثمّ يشعر بولاء وانتماء إلى من يعتقدون معه العقيدة الواحدة، فالقبيلة هنا والعشيرة هي الأسرة التي يولد فيها الإنسان، وهي تمثل بالنسبة له رحم، ومصالح، بل تمثل مكاناً للإنتماء وللولاء وللذكريات وللنشأة. ونحن نعلم أنّ القبيلة والعشيرة تعدّ مكوناً اجتماعياً وسياسياً في الدولة لا يمكن إنكاره أو تجاهله إيجاباً أو سلباً وبشكل صريح أو بشكل ضمني في التأسيس أو البنية الاجتماعية في البلاد.
ومن هنا فإنّ إيجابيات النظام القبلي بدأت تتشكل معالمه منذ عهد قبائل (الأزد) وحتى الوقت الحاضر لا تزال راسخة رسوخ الجبال، فالإنتماء القبلي مفهوم قائم ومتوارث عبر الأجيال، ومن المعلوم أنّ التنظيم البشري الذي يرتكز على صلة الرحم والقرابة إنّما هو تنظيم ضارب في القدم وقد أقرته الأديان السماوية بما في ذلك الدين الإسلامي، فمع دوائر الانتماء لابدّ أن ندرك أنّ الإسلام دين موافق للفطرة، فالإسلام يقول "الأقربون أولى بالمعروف"، ومع ذلك يقول أنّ وحدة الأمة فريضة إسلامية، وبأنّ الإسلام هو مفهوم إنساني ينتمي فيه الإنسان إلى دين وإلى عقيدة، لكن هذه العقيدة لا تقام ولا تكتمل إلا في دائر الوطن، إذن أنت أمام دائرة أسرة أو قبيلة، أمام دائرة وطنية، أمام دائرة لغة تمثل خريطة القوميات، أمام دائرة عقيدة تمثل دائرة الأمة، وأيضاً أمام دائرة إنسانية لأنّ المسلمين في نهاية المطاف هم جزء ومكون أساسي من الإنسانية، ومن هنا نقول: نحن لدينا في التصور الإسلامي سلم انتماء لهذا الوطن والمجتمع.
ولهذا قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) الحجرات، ولو رجعنا للآية لوجدنا فيها إشارات لطيفة أخرى حينما قال: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ}، فالتقسيم إلى الشعوب والقبائل هو تقسيم ربّاني، ليس بدعاً من قِبَلنا، ولما كان سبحانه حكيم منزّه عن قضاء أمر على جهة لا حكمة من ورائها، فقد جاء تعليل ذلك التقسيم بــ {لِتَعَارَفُوا} وخبرته بخلقه وعلمه بمكنونات أنفسهم حيث اقتضت أنّ التعارف والاحتكاك والاختلاط فيما بينهم مع اختلافهم من نواحٍ كثيرة وتفاوتهم فيها وتسخير بعضهم لبعض هو مدعاة للترفّع من بعضهم على بعض ولو كانت دائرة القبيلة ملغاة في سبيل التعارف لأكتفى بذكر الشعوب أو ذكر الذّكَرِ والأنثى، إذ ما من مانع يمنع من الاقتصار عليهما في التعارف ولكنّه سبحانه أثبت الدوائر الثلاثة تدرّجاً في السعة، فبدأ بالذكر والأنثى، ثمّ تدرج إلى دائرة أوسع ممثلة بالشعوب، ثمّ تلاها بدائر أكثر اتساعاً وهي دائرة القبائل، فلهذا ينقسم الناس في أيامنا هذه إلى طرفين إليهما أوجه هذه السطور، فقسم بدعاوى مختلفة منها التحضّر والتمدن والديمقراطية وما إليه، لا يبالي وربما لا يدري من أي قبيلة هو، وهنا لأكون أكثر واقعية ربما يعرف مسمى العشيرة فقط ويحاول دائماً ذكر الإسم دون العشيرة، ولكن لا يهتم بمعرفة ما وراء ذلك ولا ما دونه ولا يحفل به، والأدهى أنّه ربما يعتقد أنّ الشرع يدعم هذا النهج ويشجعه، وقسم آخر يرى أنّ القبيلة هي العروة الوثقى التي يوالي من أجلها ويعادي وأنت عندما تقرأ الصحيفة الممثلة بـ"دستور دولة المدينة"، وهو الدستور الأول للدولة الإسلامية تجد أنّ رسول لله- صلى الله عليه وسلم- يعدد الرعية، لا يتكلم عن الرعية بشكل عام وإنّما يتكلم عن قبيلة قبيلة، إذن هو وظّف القبائل كلبنات في بناء الأمة، وجعل من العصبية القبلية بعد أن هذبها بوابة لأن تصبح طاقة في سبيل الإسلام مع العلم أنّ اسم القبيلة أو الانتماء إليها والاعتزاز بها حاجز وهمي لم يجعله الشرع ولا العقل يوماً حاجزاً دون التعامل والتصافي ولا دون حسن الجيرة والأخوة الإسلامية ولا دون العمل للدين ومصالح الوطن، وإنما جعلناه نحن كذلك في واقعتنا الإجتماعي، وأمّا ما عدى ذلك فأجد أنّه من الطبيعي جداً أن يعتزّ الرجل بقومه ويفخر بهم وبالانتساب إليهم وخاصة في المحافل ومواضع الاعتزاز فعندما تفرّق الناس في غزوة حنين وفرّوا ثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ وكذلك آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، ولم يقل يا مهاجري انسى اسم قبيلتك وتسمّ باسم الأنصاري، كما أنّه في المقابل لم يقل للأنصاري امحي بالإسلام اسم القبيلة واشترك مع المهاجر في قبيلته كما أنّه لم يقل من باب أولى لهما اتركوا أسماء قبائلكم وانتسبوا للإسلام لتكونوا إخوة متحابّين ثمّ هو لم يقترح عليهم اسماً وسطاً يتنازل كلّ منهما من أجله على مسمّى قبيلته وأسرته لينتمي إليه، وبهذا الباب قد عقد صلى الله عليه وسلم الألوية للقبائل بأسمائها وسماهم بها وكذلك الصحابة من بعده فلِمَ هذا التخوف والتوجس من اسم القبيلة والعشيرة، ديننا جاء موافقاً للفطرة محافظاً على القدر المجبول على امتداده طبيعياً منها، معالجاً لما جاوز ذلك، موجِّهاً له فغريزة الشهوة مثلاً جبلّة وطبيعة، وجّهها إلى الزواج أو التسرّي وكبح جماحها به، وفرض الحد على من تجاوز إلى ما وراء ذلك وعدّه اعتداءوطلب العيش فطرة وجبلّة، فأحلّ الكسب، وحرّم الغصب والنهب والسرقة، وأحلّ البيع وحرّم الربا. والتمتع بالملذات جبلّة، فأحلّ الطيبات وحرّم الخبائث: وبالتالي فإنّ الله أعطى كل ذي حق حقه فلابدّ من العدل والإنصاف في العلاقات والكل يعلم دور القبيلة في التاريخ الإسلامي والتاريخ العربي وكيف أسهمت القبيلة في حماية الشريعة وكيف أسست للدين، فالنبي صلى الله عليه وسلم بقي في قريش القبيلة رغم استعلائها وتكبرها وعدم إسلامها لكنّها لم تستطع أن تنال منه ولا من دعوته بسبب القبيلة وقل مثل ذلك في أمجاد الأجداد والاحتفاء بما ورّثوه للأبناء والأحفاد من مفاخر ومكارم لا يتعارض الحفاظ عليها ومعاهدتها بأي مبدأ شرعي.
ومما يمكن ذكره في هذا السياق ويستدل به عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (لقد حضرت في دار ابن جدعان حلفاً) أخرجه البخاري في ” الأدب المفرد وكذا إقراره سدنة الكعبة على ما في أيديهم ومن يخدم الحجيج على ما ورّثوه من ذلك لأنّه مفخرة لهم بعد أجدادهم، ومجداً لهم، حتى نزلت في ذلك آية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} النساء، ومن ذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم (النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا))صحيح مسلم.
فالإسلام تعامل مع القبيلة كلبنة وظفها في جدار البناء الأكبر وهو بناء الأمة، يعني لم يُلغِ القبيلة، التي كانت كياناً قائماً بذاته وكانت فيها عصبية جاهلية الإنسان يحارب في سبيل قبيلته ظالمة ومظلومة، والثأر والغارات.. إلى آخره، لكنّ الإسلام عمد على تصويب الجانب العصبي الجاهلي بإعتبار أنّ هذه الجاهلية يمكن أن تؤدي إلى هدم المجتمع إذا ماتمّ الإغراق في فهمها دون وعي وعمق شديد، لذلك وصفها الرسول: بأنّها عصبية منتنة، "وليس منا من قاتل على عصبية" و إلى آخره، لكنّه وظّف القبيلة كلبنة في بناء أمة وخاصة القبائل التي كانت متفرقة وهنالك أمثلة ونماذج وُظِّف فيها العامل القبلي والإنتماء إليها توظيفاً عملياً ناجحاً، والتي لها دور كبير في المنافسة الشريفة لمخافة كل طرف من أن يأتي الخلل من ناحيته.
ففي فتح مكة مثلاً كانت الألوية معقودة على حسب القبائل كما في قصة إمرارهم على أبي سفيان وسؤاله العباس عن كل كتيبة تمرّ كما ذكر ابن هشام: (وَمَرَّتْ الْقَبَائِلُ عَلَى رَايَاتِهَا، كُلَّمَا مَرَّتْ قَبِيلَةٌ قَالَ: يَا عَبَّاسُ، مَنْ هَذِهِ؟ فَأَقُولُ: سليم، فَيَقُول: مَا لي وَلِسُلَيْمٍ، ثُمَّ تَمُرُّ الْقَبِيلَةُ فَيَقُولُ: يَا عَبَّاسُ، مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَأَقُولُ: مُزَيْنَةُ، فَيَقُول: مَا لي وَلِمُزَيْنَةَ، حَتَّى نَفِدَتْ الْقَبَائِلُ، مَا تَمُرُّ بِهِ قَبِيلَةٌ إلَّا يَسْأَلُنِي عَنْهَا، فَإِذَا أَخْبَرْتُهُ بهم، قَالَ: مَا لي وَلِبَنِي فُلَانٍ، حَتَّى مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ) سيرة ابن هشام(2/ 404)، وكذا في اتخاذ النقباء، وعقد التحالفات، والتولية على الوفود إلى غير ذلك.
فلو أننا فهمنا هذا الانتماء على هذا النحو لكظم الكثير من تشنّجاتنا ولهدّأ من روع بعض تحفّظاتنا، ولا اقتصرت معالجاتنا على القدر المتجاوز، بدلاً من مناهضة فطرة الله التي فطر الناس عليها ويجب علينا أن نفهم أنّ العمل للأسرة أو القبيلة لا منافاة بينه وبين العمل للمجتمع والأمة والوطن، إلا عند من فهمه على غير وجهه، فالوطنية لها مكان أصيل في الانتماء الإسلامي لا يغفله إنسان، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- عند هجرته لم يخرج من مكة بل أُخرج من مكة جبراً وقسراً، ومع هذا يخاطب مكة ويقول: "والله إني أعلم أنّكِ أحب بلاد الله إلى الله وأحب البلاد إلى نفسي، ولولا أنّ قومك أخرجوني منكِ ما خرجت".
إذن هو ويناجي وطنه الأول حتى وهو في ذلك التاريخ مجمع للشرك وللكفر وللأوثان، لأنّ حب الوطن هو شرط ومكمل أصيل للانتماء ، فكما تقدّم فإنّ القبيلة هي مكون اجتماعي وسياسي في الدولة لا يمكن إنكاره أو تجاهله ويجب إعطاء القبيلة أهمية وحظوة في المشاركة الإجتماعية والسياسية، أما بالنسبة لأولئك الذين يصفونها بأنّها ضرب من العنصرية فإننا نقول لهم أنّ العنصرية المقيتة عارض مَرَضِيّ، ومن كان في قلبه مرض فلن يُجدِي معه التقسيم والتحجيم مهما كان وسيظلُّ يتضايق، ضاقت دائرة الانتساب أو اتّسعت، فالمشكلة ليست في المسمّيات ولا في الانتماء والاعتزاز بالقبيلة والعشيرة ولكنّها تتمثل في القلوب التي في الصدور ولا جدوى من محاولات الالتفاف عليها ما لم نعالجها بشريعتنا وعقولنا وثقافتنا وإذا خطونا هذه الخطوة بصدق فلن يخطئنا التوفيق من قبل رب العالمين مع العلم هنا أنّه لدى الحديث عن دور القبيلة في الوقت الحاضر فإننا نقول بأنّ دورها محدود للغاية وإذا كنا نتحدث عن ماذا يفترض أن تقوم به القبيلة في التنمية، فهذا مطلب أساسي ونحن بحاجة إلى إعادة النظر في وضع القبيلة الحالي إذا أردنا منها أن تقوم بدورها يجب أن ننطلق مبتعدين عن بعض المسلمات التي يثيرها البعض من "الإخوان المعارضين" لدورها ولا بد من الإشارة إليها.
فليس بالضرورة إذا كانت هناك بعض الممارسات السلبية من بعض القبائل أن ينسحب هذا على كل القبائل والمكونات في المجتمع، فالقبيلة في تقديري هي أقل فساداً من غيرها من الجهات بل هي ملجأ للأجهزة الحكومية في حل الكثير من الإشكالات التي تحدث ونلمس هذا واقعاً يومياً عندما يكون هناك إشكاليات قائمة وتتعقد الأنظمة في حلها فإنّه نلجأ إلى شيخ القبيلة أو الوجهاء لحل هذه الإشكاليات، كما أنّ القبيلة هي الأكثر التزاماً بالقيم الاجتماعية في الوقت الحاضر، فالواجب علينا أن نصل إلى رؤية تتمثل في رؤية الجماعة والتي هي من رؤية الفرد، مؤكدين بأنّه لا نية ولا فكر ولا اعتقاد في أن يكون هناك فكر يحمل القضاء على القبيلة، بل نحن نسعى لإعطائها دوراً أقوى واحترام أكثر و يجب أن ندرك في المقابل أنّ شيخ القبيلة وأبناء القبائل بإمكانهم المشاركة السياسية والإجتماعية والدعوية والإرشادية ومساعدة الدولة في كثير من المشاكل الأمنية والإجتماعية، فنحن اليوم نعيش حالة من التغير تتطلب هذا الحضور القوي للقبائل فلا نستطيع أن نعيش لفترة طويلة جداً نخفي أو ندعي الكمال في كل شيء وندعي دائماً أننا الأفضل ونعلم علم اليقين أننا نعيش مثلنا مثل الآخرين في مشاكل وحلول كثيرة دون أن يترجم ذلك واقعاً عملياً.
وفي الختام أقول مما نفخر بأنّ كل شخص يفخر بعشيرته وقبيلته فهذا سيد البلاد حفظه الله يقول: أنا أردني هاشمي"، حفظكم الله ووفقكم والحمد لله رب العالمين.