في بداية تأسيس الكيان السياسي الاردني لم يكن هناك جسم تمثيلي للشعب الاردني. كان الحاكم الفعلي الانتداب، وكان الامير عبدالله لا زال ضيفا على الحكم.
عندما ظهر اول جسم تمثيلي، وبدلا من أن يكون اعضاءه’ منتخبين مباشرة من الشعب، تم انتخابهم من قبل الحكم. كان جُلُ اعضاءه من شيوخ القبائل ورؤساء الجاليات. وكلنا يعلم أن شيوخ القبائل لا يحصلون على الشيخة بالانتخاب، وإنما بالوراثة في الغالب. وأن مؤهلات الشيخة هي المال والعزوه وقوة الشخصية وقدر من الحكمة والدهاء. بمعنى اكثر وضوحا كان مجلس أعيان. ومنذ ذلك الحين لم يتغير النهج. مجالس النواب فيما عدا ثلاثة منها ١٩٥٤، ١٩٦٧، ١٩٨٩ كلها يمكن وصفها بأنها مجالس أعيان. أي أن مجلس الامة ظل يتكون من مجلسي اعيان.
فرضُ مجالس الاعيان لم يقتصر على مجلس الامة، بل اصبح ظاهرة عامة. تجدها في مجالس النقابات ومجالس اتحادات طلبة الجامعات، ومجالس الوزراء، والمحكمة الدستورية ومجلس تفسير الدستور من قبل وديوان التشريع، ومجالس إدارات الشركات والمؤسسات الحكومية واتحادات الكتاب والرياضة واتحاد المزارعين ومجالس ادارة الصحف ووسائل الاعلام وهيئات تحريرها ومن يُسمح لهم بالكتابة في الصحف ومن يُسمح لهم بالظهور على محطات التلفزة، ومجالس غرف الصناعة والتجارة. ولم تسلم نقابة محبي شقائق النعمان والزعتر البري ومجلس ادارة مستوردي بالات الملابس. جميعها تعاني من ظاهرة مجلس ألاعيان.
هناك مزاعم تصدر بشكل مكرر عن بعض هواة السياسة، بأن سبب تراجع الديموقراطية في الاردن هو التعديلات التي تمت على دستور عام ١٩٥٢. سبق وأن بينت مرارا خطأ هذا الزعم في عدة مقالات. ذالك أن دستور ١٩٥٢ لا علاقة له بالديموقراطية ولم يسمع بها. كما أن النصوص التي تُقصي الدستور الحالي عن عالم الديموقراطية موجودة في دستور ١٩٥٢ أصلا وليست جديدة. التعديلات زادت كمية الملح في الماء. لكن كمية الملح كانت زائدة اصلا مما جعل الماء غير مستساغ للشرب.
حتى النصوص المتعلقة بالحقوق والحريات، فإنها مصابةٌ من الاصل بفايروس الاستبداد. اذ اشتمل كل نص منها على عبارة " حسب القانون". أي ان الدستور قد اوكل تفسيره "وعملنته" للقوانين التي تصدر عن مجلسي الاعيان، وتطبيقه للحكومة التي هي مجلس اعيان. أي أنها ثالثة الاثافي.
تَركزُ السلطة بيد واحدة، وتجريد مجلس النواب من سلطات التشريع والرقابة والمحاسبة، وجعله يعتمد على اجهزة التنفس الصناعي موجودة في دستور ١٩٥٢. ألم يُحل مجلس نواب ١٩٦٧ بموجب احكام دستور ١٩٥٢؟ الم تبق البلاد ولله الحمد خالية من وباء كورونا مجالس النواب من عام ١٩٦٧ - ١٩٨٩؟ بذريعة واهية هي احتلال الضفة الغربية. هل يوجد نص في دستور ١٩٥٢ يسمح بتحويل نظام الحكم من نيابي ملكي الى حكومي ملكي؟
وأضيف الى ما سبق، أن النص الدستوري الذي يجعل من الحكومة مجرد وكيل عن رئيس السلطة التنفيذية، وهو الملك، وأن الموكل يستطيع أن يسحب وكالته متى شاء لأنها وكالة خاصة قابلة للعزل، هذا النص موجود في دستور ١٩٥٢. ألمْ يتم إجبار اقوى حكومة في تاريخ الاردن وهي حكومة سليمان النابلسي على الاستقالة، مع أنها كانت تستند الى منظومة حزبية شابة وقوية.
عدم خضوع الاجهزة الامنية لسلطة رئيس الحكومة ووزير الداخلية في الاردن ليس جديدا. بل هو تقليد متبع ومتعارفْ عليه منذ تأسيس الكيان الاردني ولا يوجد في دستور ١٩٥٢ ما يمنع ذلك. أي ليس فيهِ ما يُمَكِنْ رئيس الحكومة ووزير الداخلية من خرق ذلك العرف. التعديل على الدستور الذي جرى عام ٢٠١١ والذي اسند تعيين قادة الاجهزة الامنية للملك لم يغير الواقع بل قننه. اذ لم يسبق لاي حكومة اردنية ان اختارت وعينت اي شخص في المواقع العسكرية والامنية. ثم، اذا كان الملك هو من يُعينُ الحكومة ويقيلها، فإنه، حتى ولو كانت هي من تعين رؤساء الأجهزة العسكرية والامنية، فإن ذلك لا يعطيها سلطة عليها. لإنه من قبل تعيينٌ من المُعَينِ. ومن يملك الكثير يملك الاقل من باب أولى.
ماذا يتوقع الناس من قوانين وأنظمة تصدرها مجالس أعيان؟ إن من السذاجة ان يتوقعوا ان تنقلب هذه المجالس على نفسها وعلى آلية تشكيلها، ومنهج عملها وتسييرها ومسائلتها ومحاسبتها وحاكميتها .
وأخيرا ، فإن المال السياسي موجود منذ بدايات مجالس النواب. اذ لا زلت اتذكر شراء ذمم المخاتير مقابل دنانير ليوزعوها بمعدل ٢٠ قرشا للصوت على اقاربهم.
هناك حاجة لاجابة شجاعة على السؤال التالي: هل الاردنيون مؤهلين للديموقراطية الغربية، ويفضلونها على مفهوم المستبد العادل، وفي الغالب المستبد غير العادل؟ اليسوا موزعين على حُبِ نماذج كصدام حسين والاسد، وعبدالناصر واستبداد حكم بني عثمان ويتمنون عودته.