أ.د ابراهيم بظاظو – عميد كلية السياحة في الجامعة الأردنية فرع العقبة
تُعرف السياحة الدينية بأنها ذلك النشاط السياحي الذي يقوم على انتقال السياح من أماكن إقامتهم إلى مناطق أخرى، بهدف القيام بزيارات ورحلات دينية داخل وخارج الدولة لفترة زمنية معينة، والسياحة الدينية من أقدم أنواع السياحة التي مارسها الإنسان من خلال الحفلات الدينية وتقديم القرابين للآلهة، وتتعدد صور السياحة الدينية في العالم ما بين زيارة للأديرة والكنائس، أو مقابر القديسين وأولياء الله الصالحين، وقد عزز الإسلام السياحة الدينية فقال تعالى: في سورة النمل (( قل سيروا في الأرض فانظروا)) . صدق الله العظيم .
يعد كتاب الأرض المقدسة (1899)، من أوائل الكتب الغربية عن السياحة بالأردن، تناول هذا الكتاب عدة محاور مدعمة بالخرائط والرسومات والتي تصف العديد من الأراضي المقدسة في الأردن، إلى جانب تحديد مختلف أوجه النشاط الاقتصادي والاجتماعي في الأردن، لذا عَرف الأردن هذا النوع من السياحة منذ القدم، عندما كان يفد إليه الكثير من الزائرين لزيارة المعالم الدينية والمساجد والأضرحة رغبة منهم في توسيع دائرة الثقافة الدينية لديهم، وممارسة الطقوس الدينية، فالأردن يقع بين مكة المكرمة أقدس مكان على وجه الأرض لدى المسلمين، والقدس المدينة المقدسة لدى الديانات السماوية الثلاث، وللأردن دور مركزي في تاريخ أهل الكتاب، فالعديد من الأنبياء ورد ذكرهم في العهد القديم، والإنجيل، والقرآن الكريم، ارتبط تاريخهم بالأردن، فهم إما عاشوا فيه، أو على الأقل دخلوا إليه عابرين أرضه، فالأردن توصف بأنها أرض انطلاق الأديان السماوية والحضارات على مر الزمان.
تعد السياحة الدينية في الأردن سياحة متكررة وتتضاعف في فترات قصيرة، وهي سياحة إيمانية ملتزمة، وغير انتقائية غالباً، وهي موسمية غالباً لكنها لا تنقطع على مدار السنة، وترتبط بالتطورات السياسية، وهي غير قابلة للتنافس مع الأنواع الأخرى للسياحة، بل ممكن أن تشكل حلقات متجانسة مع الأنواع الأخرى من السياحة في الأردن، يُعْد من الصعب فصل السياحة الدينية عن السياحة الثقافية، فالعديد من الباحثين يرى أن السياحة الدينية تدخل في منظومة السياحة الثقافية، وتعتبر السياحة الدينية من حيث الهدف منها سياحة ثقافية روحانية تهتم بالجانب الروحي للإنسان إلى جانب اهتمامها بالنواحي الثقافية والدينية، لذلك لو أنها نالت قسطاً من الاهتمام والرعاية في الأردن، لأصبحت مصدراً رئيساً من مصادر الجذب السياحي، ومورداً أساسياً للإيرادات السياحية في الأردن.
مراحل التطور التاريخي للسياحة الدينية في الأردن :
المرحلة الأولى: تمتد من عام 1921 ـ 1952 تتميز هذه المرحلة بوجود عدد كبير من مواقع السياحة الدينية المجهولة، فلمْ يكْن هناك أي تركيز على تطوير مواقع السياحة الدينية والنهوض بها، وكانت الأردن خلال هذه الفترة معبراً برياً لطريق الحج الشامي.
المرحلة الثانية: تمتد من عام 1952 ـ1967 (الوحدة بين الضفتين)، تتميز هذه المرحلة بحركة سياحية دينية ملموسة نشطة، من خلال وجود المسجد الأقصى كمعلم مهم للسياحة الدينية الإسلامية، وكذلك وجود مدينة بيت لحم كمعلم بارز في السياحة الدينية المسيحية، وبقيت مواقع السياحة الدينية على الجانب الآخر في الضفة الشرقية مهملة ولم تأخذ الاهتمام الكافي.
المرحلة الثالثة: تمتد من عام 1967 ـ 1999، تتميز هذه المرحلة بخسارة الأردن لأراضي الضفة الغربية، وخسارة مواقع السياحة الدينية، والتي كانت تُشكّل عنصراً مهماً في تقوية أركان السياحة الدينية في الأردن، إضافة إلى توفيرها للعملات الصعبة، وبعدها بدأ الأردن بالكشف والاهتمام بمواقع السياحة الدينية في الضفة الشرقية، والعمل على تطويرها خاصة بعد عام 1992 فقد تشكلت لجنة ملكية لإعادة إعمار مقامات الصحابة ومواقع السياحة الدينية.
المرحلة الرابعة: تمتد من عام 1999-2020، تتميز هذه المرحلة بتطور نوعي وكمي للسياحة الدينية في الأردن، والمتمثل بإعادة الترميم والتأهيل لمواقع السياحة الدينية، ووضع العديد من المواقع السياحية على خرائط السياحة الدولية، وتشجيع الاستثمار في هذه المواقع.
أما من حيث الظروف التي يتمتع بها الأردن كميدان للسياحة الدينية، فإنها مشجعة وتبعث على التفاؤل، خصوصاً وأن الأردن يحظى بموقع جغرافي متميز، ومناخ معتدل طوال العام، إضافة إلى وجود العديد من مقومات السياحة الدينية، مما يجعلها دولة مناسبة لهذا النوع من السياحة، لكن المهم هنا العمل على تطوير المرافق السياحية التي تتناسب والسياحة الدينية، كما الحال في مشاريع الإعمار الهاشمي لمقامات الصحابة، ومشاريع وزارة السياحة والآثار والمتمثلة بالقيام بالعديد من الحفريات والاكتشافات الأثرية.
بقيت عملية تطوير مواقع السياحة الدينية متواضعة حتى الوقت الحاضر، واقتصرت على مواقع محدودة، وذلك بسبب خصوصية التعامل مع السياحة الدينية، فعلى الرغم من تطوير العديد من مواقع السياحة الدينية مثل: مقامات الصحابة في منطقة المزار الجنوبي في محافظة الكرك إلا أن السكان المحليين لم يتقبلوا هذا النوع من السياحة، لذلك يجب العمل على إعادة تأهيل المجتمع المحلي بما يتلاءم وهذا النوع من السياحة .
تُصّنف مواقع السياحة الدينية في الأردن إلى :
1. مواقع السياحة الدينية الإسلامية، مثل: مواقع المعارك الإسلامية التي دارت رحاها على أرض الأردن ،كاليرموك ومؤته، إضافة إلى مقامات الصحابة المنتشرة في كافة بقاع الأردن، 2. مواقع السياحة الدينية المسيحية ،مثل: مواقع الحج المسيحي كالمغطس وجبل نيبو ومكاور وتل مار الياس وكنيسة سيدة الجبل في عنجرة، إضافة إلى انتشار العديد من الكنائس المسيحية والتي تعود إلى عصور تاريخية مختلفة،مثل: كنيسة العذراء في مأدبا.
كانت أرض الأردن نقطة انطلاق للفتوحات الإسلامية، وكانت بالنسبة للمسيحيين الموجودين في المنطقة، وللقادمين من أماكن بعيدة، تمثّل المكان المثالي لإحياء المراحل والحقب المختلفة في الكتاب المقدس من خلال الصلوات والتأمل، وبالأخص تلك المراحل التي تتحدث عن الأنبياء.
تعد السياحة الدينية صناعة مهمة؛ في كونها تشبع الحاجات الروحية للأفراد، إضافة إلى كونها مصدراً مهماً لخلق القيم المضافة، ومورداً للعملات الأجنبية، والذي يسهم في دعم الاقتصاد الوطني وتحقيق التنمية الاقتصادية المنشودة، خاصة وأن هناك عرضاً سياحياً دينياً كبيرا في الأردن.
يجب العمل على تهيئة كوادر إدارية وخدمية مدربة وكفؤة لرفع المستوى الإداري للقطاع السياحي في الأردن عموماً، وفي مواقع الحج المسيحي على وجه التحديد، وإنشاء لجنة تضم ممثلين عن رجال الدين المسيحي مع ممثلين من جمعية الفنادق والمطاعم والأدلاء السياحيين والشركات السياحية مع بعض الاختصاصين لرسم إستراتيجية سليمة لتطوير مواقع الحج المسيحي وتدريب أدلاء سياحيين متخصصيين في مجال السياحة الدينية في الأردن، إضافة الى ضرورة اعتماد المنشآت السياحية على كوادر متخصصة بالنشاط السياحي الديني.
يجب العمل على ضرورة تطوير الحرف والصناعات التقليدية كمبادرة مهمة لصناعة السياحة الدينية، وتنمية المنتجات الحرفية والمحافظة عليها، وتعظيم الاستفادة الاقتصادية منها بوصفها قطاعاً اقتصادياً فاعلاً يسهم في دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتوفير فرص العمل لشرائح المجتمع المختلفة، وتحقيق تنمية إقليمية متوازنة.
تطوير مواقع الحج المسيحي في الأردن من خلال وضع إستراتيجية للعلاقات العامة والمبيعات، وتطوير مجموعة من المواد الدعائية، وإنشاء موقع فعال على شبكة المعلومات العالمية (الإنترنت) والعمل على الحد من الموسمية السياحية، بأن يتم التركيز في مواقع الحج المسيحي على شرائح أخرى من السوق السياحي في غير أوقات الذروة، بالإضافة إلى إعداد العروض والرحلات والمناسبات والمهرجانات الدينية لهذه الأسواق..
مقامات وأضرحة الأنبياء والصالحين والصحابة
حبا الله أرض الأردن شرفاً بأن ضمت مقامات وأضرحة عدد من الأنبياء والصالحين والصحابة من الشهداء وقادة الأمة، ممن سطروا بتضحياتهم أروع صور البذل والشهادة، أو من كانوا في طليعة قيادة جيوش الفتح الإسلامي، وتشكل هذه المقامات والأضرحة مكتسباً أردنياً يؤكد دور الأرض الأردنية في صياغة تاريخ الأمة.
أدرك الأردن وقيادته الهاشمية أهمية هذه المواقع وضرورة الحفاظ عليها وصونها، ففي عام 1984 أمر المغفور له جلالة الملك الحسين بن طلال، طيب الله ثراه، بتشكيل لجنة ملكية خاصة لترميم وصيانة أضرحة الصحابة والشهداء الفاتحين في الأردن، وبناء المساجد في مواقعها، وفي عام 1992 أطلق رحمه الله مرحلة جديدة من العمل على ترميم وصيانة أضرحة الصاحبة ومقامات الأنبياء في مناطق مختلفة.
منذ أن اعتلى جلالة الملك عبدالله الثاني العرش، واصل المسيرة، وأبدى توجيهاته للجهات المعنية لإنجاز بقية مشاريع الترميم والصيانة، وقامت اللجنة الملكية لإعمار مساجد ومقامات الأنبياء والصحابة والشهداء منذ تشكيلها، بوضع خطة عملية شاملة لعملية الإعمار والصيانة والترميم، وأنجزت العديد من المشاريع، حيث شهد الإعمار الهاشمي لمواقع السياحة الدينية توسعاً كبيراً وشاملاً في جميع أرجاء المملكة، وقد روعي في هذا الإعمار أن تكون الأضرحة مجمعات خير شاملة، تعمل على تجسيد المثُل والقيم السامية التي يمثلها الصحابة والشهداء.
أسهم اهتمام جلالة الملك بالسياحة الدينية، بإدراج خمسة مواقع للحج المسيحي في الأردن على خارطة السياحة الدينية العالمية، والمعترف بها رسمياً من قبل الفاتيكان وجميع الطوائف المسيحية في العالم منذ مطلع الألفية الثالثة. تعد الأردن من أكثر الدول التي زارها البابا أربع مرات في المنطقة تقديراً لجلالة الملك عبدالله ابن الحسين، وتأكيداً على أهمية المواقع الدينية المسيحية في الأردن ومواقع الحج المسيحي، مما يؤكد الدور المحوري لجلالة الملك وللنموذج الأردني في العيش المشترك بين أتباع الرسالات السماوية، القائم على وسطية الإسلام واعتداله وثوابت رسالة عمان، وتؤكد هذه الزيارات أيضا على أهمية المغطس وقدسية المكان في الضفة الشرقية لنهر الأردن، مما يسهم في زيادة حصة الأردن الدولية على خارطة السياحة الدينية.
تقديراً لجهود جلالة الملك على المستوى الدولي في مجال حوار الأديان والعيش المشترك حصول جلالته على جائزة مصباح السلام في 29 مارس 2019 في مدينة أسيزي الإيطالية، حيث منحت جائزة مصباح السلام للملك تقديرا لجهوده في تعزيز حقوق الإنسان والتآخي وحوار الأديان والسلام في الشرق الأوسط والعالم، وتقديراً لسعيه الدؤوب لتعزيز حقوق الإنسان والتآخي والسلام في الشرق الأوسط والعالم، بالإضافة إلى جهود الأردن، بقيادة جلالته، في استضافة اللاجئين.
تسلم جلالة الملك أيضاً جائزة تمبلتون في 14 نوفمبر 2018 بالعاصمة الأميركية، واشنطن وسط حضور عدد من الشخصيات العالمية، والقيادات السياسية والفكرية والدينية، وذلك تقديرا لجهوده في تحقيق الوئام بين الأديان، وحماية المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، وحماية الحريات الدينية، في حفل أقيم في كاتدرائية واشنطن الوطنية، تقديرا لجهود الملك كأحد أهم القادة السياسيين على مستوى العالم في الوقت الحالي، الذي يعمل على تحقيق الوئام بين المذاهب الإسلامية وبين أتباع الدين الإسلامي وباقي الأديان في العالم. قلدت تمبلتون ديل الملك ميدالية شجرة الحياة.
نؤكد على دور الهاشميين في إدخال مدينة القدس إلى منظومة المواقع التراثية العالمية المحمية عام 1981 ضمن لوائح اليونيسكو، مما يؤكد على أهمية الدور التاريخي الذي يقوم به الهاشميون في الحفاظ على المقدسات الإسلامية والمسيحية، ونؤكد هنا أن الأردن وبقيادة جلالة الملك عبد الله الثاني ما انفك دوره بدعم القدس وحماية المقدسات وصمود المقدسيين، إضافة إلى الإعمار الهاشمي للأماكن السياحية والتراثية، ويحرص الأردن بتوجيهات مباشرة من جلالة الملك على متابعة ملف التراث الثقافي لمدينة القدس بالتعاون مع المنظمات والهيئات الدولية للمحافظة على تراث المدينة المسجلة على لائحة التراث العالمي المهدد بالخطر لدى اليونسكو.