القهوة في أصل اللغة من أسماء الخمر، وهو من سوء الحظ؛ لأنه سيعزز من تحريم القهوة بعد ذلك، وسيربطها به لسبب غير مفهوم، ويقال إنها سميت بذلك؛ لأنها تُقهي شاربها عن الطعام، أي تذهب بشهوته. والقهوة أشهر المحفزات الدماغية التي نشربها يوميًا ونستهلك منها عالميًا 150 مليون كيسًا كل عام، وهو ما يساوي 10 مليون طن.
أرسل إلينا قهوة، نطفئ بها جمر الكسل؛ فإنها أحلى من المَنِ، ومن طعم العسل. *جمال الدين القاسمي في كتاب «رسالة في الشاي والقهوة والدخان»
وللعجب فقد شهدت مسيرة تاريخية من التحريم بدعاوى دينية وسياسية لم تمر بها مشروبات جاءت من موطنها الأصلي، مثل الشاي، حتى أنها حرمت على الفتيات في ريف مصر، وحتى باليمن في عصور حديثة. وقد أدى انقسام الفقهاء والشعراء حول تحريم القهوة إلى نتاج مثير فقهي وشعري، لكن هل تتخيل عالمًا بلا قهوة؟ وبلا مقاهي أيضًا؟
تقول الأسطورة إن القهوة اكتُشفت في القرن التاسع في إثيوبيا بواسطة إحدى الماعز، لاحظ صاحبها عليها حالة نشاط بعدما أكلت من شجرة القهوة، ونبات القهوة – لمن لا يعرفه – يُزهر ورودًا تشبه الياسمين، وحبات تشبه حبات الكرز، وتأخذ حبات الكرز عامًا كاملًا لتنضج بعد مولد الزهرة، وخمس سنوات حتى تصل للنضج الكامل، وتعيش شجرة القهوة لمدة قد تصل إلى قرن كامل.
يتحدث محمد الأرناؤوط في كتابه «التاريخ الثقافي للقهوة والمقاهي» عن تاريخ تحريم القهوة في الإسلام، ويقول إن بداية وصول القهوة العربية إلى الحجاز جاء في القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، ومن مكة انطلقت الشرارة الأولى لمنع القهوة في 917هـ (1511).
استمر انقسام العلماء ما بين معارض ومؤيد للقهوة، وأصرّ بعض العلماء على تحريمها، كالشيخ الحكمي الكازروني، والذي ألّف رسالة في تحريمها، بينما أيّد بعض العلماء تحليل القهوة، كالشيخ أبي بكر المكي الذي ألّف رسالة أخرى للدفاع عنها عنوانها «إثارة النخوة بحكم القهوة».
أما انتشار القهوة في مصر والشام في القرن العاشر الهجري والسادس عشر الميلادي فكان من خلال الصوفيين؛ فالقهوة كانت مناسبة للصوفيين لأداء شعائرهم المختلفة وطقوسهم الروحية ليظلوا متيقظين أثناء تبتّلهم؛ فأصبحت هناك صلة وثيقة بين القهوة والصوفية، خاصةً الطريقة الشاذلية.
وأصبح اسم القهوة وشربها مرتبطًا بالشاذلي نفسه، وفي هذا الصدد نجد أنه في دمشق في القرن العشرين كان يُسكب الفنجان الأول من إبريق القهوة؛ لأنه «حصة الشاذلي»، وكان يُعتقد إذا لم يُسكب هذا الفنجان ستُراق القهوة وتنقلب حتمًا، ويُذكر أن القهوة تُسمى في الجزائر «شاذلية» نسبة إلى الشاذلي.
وقد أورد المؤرخ الشيخ عبد القادر الجزيري الذي عاش في مصر بالقرن العاشر الهجري في الدرر الفرائد عن صدور حكم سلطاني مفاجئ في القاهرة مطلع شعبان 968هـ (1572)، يقضي «بمنع المسكرات والمنكرات والمحرمات، ويغلق أبواب الحانات والخانات، ومنع القهوة وهدم كوانينها وأوانيها».
ويُضيف الجزيري: «كان العسس على القهوة وبيوتها شديدًا للغاية؛ فهدموا أوانيها، وهو ما لم يفعلوه في أواني الخمر والحشيشة». ويذكر كتاب الأرناؤوط أن الموقف قد حُسم في النهاية لصالح شاربي القهوة.
الموت لشاربي القهوة
وفي إسطنبول في 1633 لم يكن عهد السلطان العثماني مراد الرابع العهد الأول ولا الأخير الذي يشهد تحريم القهوة، لكن جهوده لمنعها كانت الأنجح؛ فبين أوائل القرن السادس عشر والقرن الثامن عشر. كان السلطان مراد الرابع يعسّ طرق القسطنطينية (إسطنبول حاليًا) من أجل البحث عمن يرتاد بيوت القهوة.
تحريم القهوة
بيت للقهوة في إسطنبول القديمة المصدر
وكان يعتقد حينها كالعادة أن شرب القهوة سيؤثر على السلوك الاجتماعي، ويشجع على أفكار غير محمودة، وعلى الكلام البذيء. وقد فرض مراد الرابع حكمًا بالإعدام على كل من يشرب القهوة على الملأ، وعلى من يدخن التبغ والأفيون.
تحريم القهوة عالميًا وتأصيل علمي كاذب
وصلت القهوة إلى أوروبا بمشارف القرن السابع عشر، وانتشرت في كل القارة؛ لتغزو صناعة البيرة والنبيذ، بعض الناس استقبلوا المشروب الجديد بخوفٍ وريبة، والبعض أسماه «اختراع الشيطان المُر»، وأمام تهديد صناعة النبيذ، فقد ألجأ أحد صانعيه إلى أن يتحالف مع طالب جامعي ليكتب أطروحة عن القهوة، عنوانها: «هل القهوة ضارة لعادات سكان مارسيليا؟» واتهم الشاب القهوة بأنها تحتوي على حبيبات تمتلك طاقة عنيفة تدخل الجسد، وتهاجم الغدد الليمفاوية، وتجفف الكلى، وينتج عن هذا المشروب إرهاقًا عامًا، وشللًا، وضعفًا جنسيًا.
تحريم القهوة
القهوة قديمًا المصدر
وأدان رجال الدين القهوة عندما وصلت إلى فينسيا في عام 1615، وكان الجدل على القهوة كبيرًا؛ حتى أنه وصل للبابا كليمنت الثامن، الذي تذوق القهوة ليفصل في الخلاف، وبعد أن نالت القهوة إعجابه حصلت القهوة على تأييد بابوي.
وفي عام 1777 في بروسيا وضع فريدريش الثاني ملك بروسيا القهوة في قائمة المحظورات وشجع على تناول البيرة، بدلًا عنها؛ لأنها صحية أكثر من القهوة في وجهة نظره. فقد أورد ويليم هاريسون وركس في كتاب «كل شيء عن القهوة» قوله: «لقد ساءني أن تناول الناس القهوة في ازدياد، وبالتبعية الأموال التي تنفقها الدولة عليها. الجميع يشرب القهوة، فلو أمكن ولم يكن بد أن يتناول شعبي البيرة. فأنا أتناولها وأسلافي، والجنود الذين ينتصرون في المعارك يشربونها أيضًا».
وكان الملك يعتقد أن الجنود شاربي القهوة لن يتحملوا المعارك، ولن ينتصروا على الأعداء. والسبب الحقيقي لكره فريدريش للقهوة كان اقتصاديًا بحتًا؛ فقد أثار قلقه أن الاستيراد الكثير للقهوة قد يُدمر اقتصاد الدولة؛ لأن القهوة كان يتم جلبها من الخارج على عكس البيرة، 700 ألف من العملة المحلية تغادر الدولة سنويًا من أجل القهوة.
ستتعجب إن عرفت أن تحميص القهوة كان يتطلب تقديم طلب للحكومة من أجل الترخيص، لكن كل الطلبات كانت تُرفض ما عدا أشخاص معينن ذوي صلات بالحاكم، بمعنى آخر كان كوب القهوة شيئًا نخبويًا. وكما كتب ووركس في كتاب «كل شيء عن القهوة» كان هناك 400 جندي مخولين بتتبع رائحة القهوة لمعرفة إذا كانت قادمة من مكان مسموح له برخصة تحميص للقهوة، أم لا. لكن هذا لم يستمر كثيرًا؛ فقد مات الملك عام 1786، وسقطت كل هذه المحاذير، ليعرف الملوك مصير من يحول بين الناس وقهوتهم.
وإذا قفزنا تاريخيًا سنعرف أن المقاهي اتخذت بعد ذلك مكانة هامة جدًا اقتصاديًا وثقافيًا، وحركت حتى الثورات؛ فمثلًا الثورة الفرنسية قد جرى التخطيط لها من قبل النخبة المثقفة، أو «الإنتلجسنيا» وفي المقاهي ذاتها التي كانت محظورة قبل سنوات.