الدكتور عايد عوض الجبور/ مفتي الهيئة الهاشمية للمصابين العسكريين
بين الضلوع قلوب تقفز فرحاً وفي العيون دموع شوق وتوبة وعلى الشفاه ابتسامات فرح وترحاب بهذا الزائر الذي طرق الأبواب ويوشك أن يعمرها بالبركة ويظللها بالسكينة والذكر لتصبح بيوتاً معطرة بروحانيات أجمل الشهور شهر رمضان الخير والمحبة والألفة شهر مجاهدة النفس والطاعة والقرب من الله، شهر الصدقات لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه أنس قال سئل رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال الصدقة في رمضان.
والصوم في اللغة: هو الإمساك، وفي الشرع هو الإمساك عن الْمُفَطِّر على وجه مخصوص من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والوجه المخصوص يقصد به اجتماع الشروط والأركان التي يجب مراعاتها حتى يعتبر الصوم ، وانتفاء الأمور التي تمنع من الصيام لأن النفس إذا امتنعت عن بعض المباحات الضرورية كالطعام والشراب طمعاً في مرضاة الله، وخوفاً من غضبه وعقابه؛ يسهل حينئذ عليها الامتناع عن الْمُحَرَّمات، فشرع الله تعالى صيام شهر رمضان لحِكمة عظيمة، هي: تحقيق تقوى الله تعالى تكون باتِّباع شرعه وعبادته وطاعته بفعل ما أمر به
واجتناب ما نها عنه تعالى، قال تعالى (ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ التقوى) (البقرة: 183)
فالصيام مدرسة يتربى فيها المسلم على طاعة الله تعالى فمن لم يتربَّ في هذه المدرسة فهو كالطالب يدخل المدرسة ويخرج منها ولم يتعلَّم القراءة والكتابة، فلا بد أن يتميَّز المسلم في صيامه بتقوى الله - جل وعلا - فيترك ما اعتاده من التقصير في الواجبات؛ مثل: ترْك صلاةِ الفجر، وترك الصلاة مع الجماعة، كما أنه يَحرِص على ترْك ما اعتاده من المنكرات، مثل: عقوق الوالدين، ومتابعة الأفلام الهابطة، ومُشاهَدة صور النساء بأي طريق، وليعزم على التوبة، والاستمرار على ما اكتسبه في رمضان من عمل الصالِحات وترك المُنكَرات.
وأثر الصيام في التعامل مع الآخرين أمر مهم للمسلم :
لأن الصيام مدرسة يتربَّى فيها المسلم على تقوى الله - تعالى - والتقوى تتضمَّن حسن التعامل مع الآخَرين، وذلك بسلوك الأخلاق الحسنة التي دعا إليها الإسلام، وتجنُّب الأخلاق المذمومة التي حذَّر منها الإسلام، فلا بدَّ أن يظهر أثرُ الصيام في ذلك على صاحبِه، وهذا ما أرشد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: وإذا كان يومُ صومِ أحدكم فلا يرفث ولا يصخَب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم . متفق عليه
والصخب هو رفع الصوت على الناس من الغضب ونحوه، كما أن عليه ترك الاستِرسال مع من خاطبه بالكلام الخارج عن الأدب واللياقة، وذلك بترك الرد عليه، مع إشعاره بالمانع له من ذلك، والباعث له على التزام حُسْن الأدب ألا وهو الصيام،
وليقل له بصريح العبارة: ((إني امرؤ صائم وليعلم الصائم أن هذا الخلُق ليس خاصًّا بحال الصيام، ولكن الصيام هو المدرَسة التي يَنطلِق منها المسلم إلى محاسِن الأخلاق وكريم السجايا؛ قال الله – تعالى وعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا -
: والمعنى: أنه إذا خاطبَهم جاهل بكلام سوء، ردوا عليه بكلام حسَن يَسلَمون به من الإثم، وقال تعالى: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة: 83]، وقال تعالى: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ﴾ (الإسراء: 53)
كما يعد الصوم وسيلة للتحلي بالإخلاص؛ لأن الصائم يعلم أنه لا يطَّلع أحد غير الله تعالى على حقيقة صومه، وأنه إذا شاء أن يترك الصوم دون أن يشعر به أحد لفعل، فلا يمنعه عن الفِطْر إلا اطِّلاعُ الله تعالى عليه، ولا يحثه على الصوم إلا رضاء الله، والنَّفْسُ إذا تعايشت مع هذه الرؤية صارت متحلية بالإخلاص، ويشير إلى هذا المعنى الحديث القدسي: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِه
كما يعتبر، الصوم وسيلة للشكر؛ لأَنَّه بالامتناع في وقت الصوم عمَّا أنعم الله به على الإنسان من الطعام والشراب وسائر الشهوات المباحة يتبيَّن للإنسان مقدار تلك النِّعَم وحاجة الإنسان إليها، ومدى المشقة التي تلحق المحروم من تلك النِّعَم، فتتوق نفسه إلى شكر ذلك الْمُنْعِم العظيم الغنيِّ الذي وهب ومنح دون مُقَابل أو حاجةٍ لِمُقَابل، ويفيض القلب بالرحمة والشفقة والعطف على الفقراء والمساكين والمحتاجين، ويشير إلى هذه المعاني قوله عزَّ وجل في خاتمة آيات الصيام: {وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (البقرة: 185)
ويعد الصوم، أيضا، وسيلة لدفع وساوس الشيطان؛ لما فيه من تَخَلُّق النفس بالصبر على الجوع والعطش والشهوة، والحد من نَهْمَتِهَا وانطلاقها الغاشم في الملذَّات، فالنفس المنطلقة في الشهوات اللاهثة وراء الملذات ما أسهل أن تستجيب للشيطان حين يُزَيِّن لها المهالك والموبقات؛ لذا كانت النفس في حاجة إلى الضبط والتنظيم في تنعُّمها بنعم الله تعالى، وإلى الترويض على مُقَاومة الشيطان، ولهذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاء)
فالمقصود من الصوم: إمساك النفس عن خسيس عاداتها، وحبسها عن شهواتها، ومنعها عن مألوفاتها، ولما كانت النفس مائلة إلى حب الرفعة على سائر المخلوقات والتكبر عليهم، وغير ذلك من العوائق الحاجبة لها من أن تصل إلى الأنوار الإلهية، جعل الله الصوم سببًا قويًّا في إزالة تلك العوائق، حتى إن أرباب المكاشفات لا يصلون إليها إلا بالصوم؛ لأنه سبب في تواضع النفس، وبتواضعها لا يحوم الشيطان حولها، فتصل إلى تلك الأنوار الصمدية؛ ولذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: «لَوْلا أَنَّ الشَّيَاطِينَ يَحُومُونَ عَلَى قُلُوبِ بَنِي آدَمَ لَنَظَرُوا إِلَى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ فلهذا يجب على المسلم ان يستغل هذا الشهر الكريم في عبادته وقربه من الله من خلال قيام هذا الشهر العظيم وصيامه تقبل الله ومنكم الطاعات وكل عام وانتم بالف خير