تأخرت قليلاً في كتابة هذا المقال، ولكنني عزمت على خطّ بعض الكلمات التي تُعبّر عما شعرت به أثناء مشاركتي في هذه الأمسية الفنية الراقية التي جسَّدَت أجملَ معاني الفن بإبراز إيقونة تراث بلادنا المقدسة الذي نفاخر به الدنيا، والذي يعكس تاريخ آبائنا وأجدادنا ويحكي قصة المكان والزمان الذي ما زال ينبض في قلوبنا إنتماءً ووفاء وحباً للأرض التي ما بَخِلَتْ يوما بزيتونها وزيتها الذي أنار قناديل كنائسنا وجوامعنا، ونُحِتَ من خشبها المعطَّرِ برائحة ذكية أجملَ التحفَ والإيقوناتِ والمجسماتِ التي تحكي تاريخ بلادنا المقدسة.
أقل ما يقال أن الحفل الفني التراثي الذي أحيته الفنانة دلال أبو آمنة أنه كان ناجحاً بإمتياز: أولاً، بإمتلاء المدرج الجنوبي من الحضور الذي شمل أردنيين وفلسطينيين وعرب ومغتربين، ووسطَ أجواءٍ مبهِرة من الإضاءة بألوانها الخلابة التي أنطقَت المكان بعبق التاريخ والحضارة التي مرّت من بلادنا. ثانيا، بتفاعل الجمهور مع أجمل لوحات التراث المميزة. ثالثا، بالشعور التام بالأمن والأمان الذي وفرّته لنا أجهزتنا الأمنية المهنية بكفاءاتها العالية ورقي منتسبيها وإنسانيتهم، الذين قدموا أجملَ الصورِ عن أردن التاريخ والمجد والحضارة وعن حكمة قيادتنا الهاشمية.
كل هذه الأجواء كانت مدعاة للإستمتاع والتأمل في الأداء المميز الذي قدّمته الفنانة الفلسطينية النصرواية المميزة دلال أبو آمنة مع ما يزيد عن مائة إمرأة فلسطينية وأردنية بأثوابهم الفلاحية المطرزة، والفرقة الموسيقية، والأوركسترا الأردنية. وليس غريباً أن يشعرَ المرءُ بأنَّه قد حلّق في أعالي السماء لروعة الأمسية التي تخللها أجمل الكلمات والزغاريد والصوت الشذي الذي جسَّد أجمل موروث غنائي تراثي فلسطيني وأردني وعربي، فعزفَ على وتر القلوب وأدمع العيون وملئ الوجدان فرحاً بحقيقة الوحدة الثقافية التي تجمع الأردن وفلسطين والتي يجمع بينهما نهر الأردن المقدس، هذا النهر الذي يشكل جسراً لوحدة الدم والتواصل والتكامل والتعاضد والمصاهرة والنسب ووحدة الحال والتاريخ المشترك والدفاع عن المقدسات الإٍسلامية والمسيحية التي هي جزء من تاريخنا ومن عقيدتنا ومن إيماننا.
فأجمل معنى جسدته هذه الأمسية هي الوحدة الحقيقية الأردنية الفلسطينية، فمن يجمعهم تراث مشترك وثقافة مشتركة وتاريخ مشترك وهموم مشتركة يجمعهم أيضاً حاضر مشترك ومصير مشترك واحد. فنحنُ شعب لنا تاريخٌ جذورُهُ ضاربةٌ في الأرض كشجرة الزيتون المباركة، وتراثنا يحكي موروثَنا الثقافي، وحضارتنا تلخص تفاعلنا مع بيئتنا والتي أنتجت طرق معيشة خاصة بنا تلبي إحتياجاتنا الدينية والنفسية والصحية والفكرية الإجتماعية والسياسية.
كذلك جسدت هذه الأمسية بموروثنا الثقافي وأغانينا الوطنية (ومنها إليك يا مدينة الصلاة أصلي، موطني موطني) مكانة القدس في قلوبنا جميعاً وبأنَّ القضية الفلسطينية هي في صلب السياسية الأردنية والرعاية الهاشمية المباركة التي يوليها صاحب الوصاية الهاشمية جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين المعظم كلَّ الإهتمام والدعم، وبأنّ فلسطين ستبقى قلب العروبة النابض وستبقى القضية الأولى والمركزية.
وأما الرسالة التي يقرأها المرء من هذه الأمسية بأنهُ لا حدٌّ يباعدنا ولا دين يفرقنا، لسان الضاد يجمعنا بغسان وعدنان. فتراث بلادنا المقدسة يذكرنا بعروبتنا ووطنيتنا التي تجمتعنا وبأنَّ الهلالَ والصليبَ هما عنوانُ أخوتنا ووحدة حالنا وعبادتنا لله الواحد الأحد.