يتبجح مثقفيها بالابداع والاستعراض وقنص الجوائز، فهل تغير الحال؟!
"وما حدش يزعل مني" عشني صريح ومستريح: تجربتي الشخصية مع كتابي الأخير المنشور...
*تشير الاحصاءآت العالمية في مجال النشر والقراءة بأن الانسان العربي عموما لا يقرأ سوى عدة صفحات من كتاب واحد سنويا، وذلك عكس الاوروبي والأمريكي والياباني الذي يقرأ عدة كتب سنويا، وربما هذا كلام قديم ويتضمن مبالغات وتشويه "مقصود" للنيل من ثقافة العرب وحال المثقفين، وربما يتضمن بعض الصحة والصواب، والأمر حقا شائك ويتطلب اجراء استقصاء بحثي جديد مدروس ويمثل عينات صحيحة وليست متحيزة.
*لكني سأعرض (ملخصا) بنزاهة لتجربتي الشخصية الفريدة في مجال النشر وربما معاناتي:
*فلقد قمت منذ حوالي العشر سنوات بتأليف كتاب جديد في احدث مفاهيم الجودة العصرية، ثم وزعت غير نادم حوالي الخمسين نسخة مجانية لفئات مختلفة: صحفيون، أساتذة جامعات، مدراء مؤسسات صناعية وحكومية وخدمية، مستشارون وخبراء وبعض الأصدقاء، فوجدت النتائج التالية: لم يرسل احدا من هؤلاء اللذين اهديت لهم النسخ مجانا أية تغذية مرتدة ذات مغزى (الا شخص واحد فقط وبلا تعمق)، كما لم "يستنضفوا" (كما نقول بالعامية) بارسال أية تعليقات، سواء سلبية او ايجابية، مما أشعرني حقا بالندم لارسال الكتب لأشخاص غير مهتمين ولا متفاعلين، ولكني من ناحية اخرى فقد سررت لني اعتبرت هذه التجربة الشخصية دالة احصائية وذات مغزى، وبدأت أشعر اننا بالفعل شعبا لا يقرأ الا اذا كانت هناك منفعة مباشرة وربما وظيفية من وراء القراءة واقتناء الكتب...كذلك فقد علمت أن دار النشر بدورها قد وزعت نسخا مجانية لترويج الكتاب، ولم تصلهم ايضا ردود ذات مغزى كما اخبروني، فأرسلت لهم توضيح ارشادي لكيفية الاستفادة من محتويات الكتاب عمليا.
*الغريب أنه وصلتني تغذية راجعة مفيدة من اجانب على قلتهم، بالرغم من أن عدد الصفحات بالانجليزية لذاك الكتاب لا يتجاوز العشرين بالمئة فقط: فصديقي المستشار الأمريكي المرموق ابدى لي نصائحه ووجهة نظره "المهنية" المفيدة، وبالمقابل فقد اهداني أحد كتبه الحديثة القيمة في نفس المجال كما نصح أصدقائه الفيسبوكيين باعتبار هذا الكتاب كمرجع علمي فريد رائد مكتوب باللغة العربية، أما صديقي الانجليزي الموسوعي المنظر، فقد اعجب كثيرا بطريقة تصميم الكتاب من الناحية الفنية، وطلب الاذن باهداء الكتاب لاحدى مكتبات المساجد البريطانية المحلية في ضواحي لندن، تعميما للفائدة وتحفيزا لقراء العربية من جانب المقيمين الوافدين، معززا ما نسميه بثقافتنا العربية/الاسلامية الدارجة "بالصدقة الدارجة" وهي هنا ذات سمة "علمية-ثقافية" تحديدا...وللطرافة فقد وصلتني رسائل بالبريد الألكتروني من شخصين بريطانيي الجنسية يطلبان نسخا من الكتاب (ربما كانا باكستاني الأصل لا اعلم)، وهناك شخص ربما باكستاني (لا يتحدث العربية كما يبدو) من جامعة الامارات العربية المفتوحة راسلني لأكثر من سنتين لأعقد دورة هناك ولكن دون جدوى!
*بعضهم للأسف من حملة الدكتوراة ومن كبار الموظفين في الشركات والمؤسسات أخبرني بأن الكتاب موجود في الاستقبال لاستعادته فور استفساري عن الفائدة المحققة من توزيعه، أي أنهم قالو لي مجازا "جميلتك على حالك وخد كتابك والله معك" ...وعلمت بالخفاء ان مديرا عاما للغرفة الصناعية قد "سرق" الكتاب في شنطته متهربا من التغذية المرتدة ومن دفع ثمنه على حد سواء، اما المهزلة فتكمن بقيام موظف مرموق (ملتحي) في النقابات الهندسية بتصوير صفحات الكتاب اليتيم الذي تم شراؤه على "الفتوكوبي مشين" لتوزيع عدة نسخة مقلدة منه هنا وهناك مجانا، وعندما اعترضت بحجة الملكية الفكرية وحقوق المؤلف اجابني متبجحا بجرأة ساخرة: يا راجل!...وتستمر الحدوتة المعبرة، فقد اهديت نسخة لصحفي مرموق اعرفه، ولم يكلف سعادته نفسه لكتابة سطر تعليق واحد، بالرغم من ان الموضوع يخص تطوير القطاع العام وقطاع الأعمال اجمالا، وربما لأنه تأكد من ان المؤلف شخص بعيد عن الشهرة وغير معروف، والله اعلم، كما اهديت نسخة لاستاذ جامعة دكتور "وصولي" دون ان اتلقى كلمة "شكرا" وكأن الموضوع "خاوا" واجباري (كما يقولون بالعامية الاردنية).
*الغريب حقا أن هؤلاء اللذين أرسلوا لي تعليقاتهم وملاحظاتهم القيمة هم اولئك اللذين اشتروا نسخا من الكتاب ولم يهدى لهم، وقد نسيت ان أقول بأن هذا الكتاب (أسرار الحيود السداسي) قد حصل في العام 2005 على جائزة "أفضل كتاب تقني" في مسابقة جامعة فيلاديلفيا الشهيرة لأحسن كتاب سنوي، وتم الاحتفال بتوزيع الجوائز في المركز الثقافي الملكي، ولكن للغرابة ايضا فقد "حردت" دار النشر (مؤسسة وائل) ولم ترسل مندوبا لحضور الاحتفال، ربما من منطلق عدم رغبتهم بترويج الكتاب الا بواسطتهم وعن طريق معارض الكتب فقط، وقد عانيت الأمرين من بخلهم بتوزيع مستحقاتي التعاقدية السنوية، متحججين بضعف شراء الكتاب وغموض عنوانه وكثرة المخططات والصور، وقد تبين لي (من البحث بالشبكة العنكبوتية) أنهم ربما باعوا نسخا من هذا الكتاب الفريد بحوالي العشرين دولارا لمعظم الجامعات العربية عدا عن التسويق الفردي ولم استطع ابد ان اعرف منهم عدد النسخ المباعة، كما كنت بالخطا اعتقد بأن حصول الكتاب على هذه الجائزة المرموقة محليا وربما اقليميا، سيحسن من ترويج بيعه وانتشاره ولكنهم نفوا ذلك باصرار عكس المنطق المعروف، وطلبت منهم طباعة ملصق بهذه المعلومة على نسخ الكتاب لتسهيل تسويقه فرفضوا ذلك بلا سبب واضح، وقمت شخصيا بوضع هذا الملصق على حسابي على النسخ المهداة شخصيا.
*بعد مرور اكثر من عقد وحوالي النصف من الزمان اعتقد متفائلا أن الموضوع قد تغير ايجابيا، والاحظ ذلك من الاقبال الكبير على زيارة معارض الكتب وعلى حضور ندوات توقيع الكتب الجديدة وشراءها، وان كنت اعتقد ان للرواية حظها الأكبر هنا في القراءة والنشر والتوزيع والله اعلم، ومؤخرا فقد سررت كثيرا عندما وزعت حوالي مئة كتاب مختلف العناوين (نصفها روايات) على مكتبة الجمعية الفلسفية الاردنية في عمان... فلاحظت بسرور ان اكثر من حوالي ربعها قد اختفى بعد حوالي النصف ساعة فقط، وهذا مؤشر ايجابي لافت ومشجع، كما وعدني رئيس الجمعية المبجل بمنحي كتاب شكر وتقدير، وهذه بادرة تشجيع ايجابية، لكن للمفارقة الطريفة ايضا فقد عيرني بتهكم "مفكر يدير الجلسات" عندما علق ساخرا على الفكرة!
*هناك قصة تقول بانه عندما تم توجيه اللوم للجنرال الصهيوني اللعين "موشي ديان" في ستينات القرن المنصرم لنشره مسبقا للخطط الحربية لهجوم عام ال67 الكاسح على ثلاث دول عربية، أجاب بتبجح وعدم اكتراث بأن العرب لا يقرأون، فهل كان يقصد الاهانة المقصودة ام انه عبر بحق عن واقع الحال حينئذ؟! وأعتقد ربما ان الوضع قد تغير حاليا باتجاه ايجابي لافت، ويكفي ان تطلع يوميا على بعض الصحف الورقية العربية او المواقع الألكترونية المحلية او المهجرية، وأن تقرأ تفاعلات القراء النبهاء المتحمسين على المقالات المختلفة وخاصة السياسية منها لتعرف مدى التجاوب الكبير اللافت والتفاعلي المبشر بالخير والوعي والثقافة بالرغم من كثرة المعيقات والمحبطات وقوانين النشر الألكتروني المقيدة لحرية الرأي ونشر المعلومات في بعض البلدان، كما لا يمكن تجاهل "مقص الرقيب القمعي" في الكثير من الصحف والمواقع الألكترونية الموجهة، التي تستنكف وترفض الأراء والأفكار الجديدة المتحررة والجريئة وربما الصائبة أحيانا، التي لا تنسجم مع أفكار السياسة العامة والتوجهات والقناعات الرسمية!...
*وحاليا فانا بصدد كتابة انطباعاتي بشأن توزيع كتبي الجديدة في السينما والجودة وسأوافيكم بتكملة القصة: