كُتب وسيُكتب الكثيرُ عن الأمسية الخلاّبة التي ألهبت قلوب الحاضرين الرسميين والكنسيين والشَّعبيين، وخطفت أبصارهم لروعتها وحسن تنظيمها ورقي أدائها ومهنيتها العالية، وأعني الأمسية التي أقيمت مساء يوم الأحد ٢٠٢٢/١٠/٩ على تلٍ مطلٍ على جبل مكاور في مضارب بني حميدة الأصلاء، والتي تمثلت في مسرحية غنائية إستعراضية راقية قدمتها ثلّة من الفنانيين اللبنانيين بأرقى أنواع الفن الغنائي والإستعراضي الذي عكس تاريخ المكان واستنطقه، فتكلمت حجارة المكان حتى ولو صمتت ردحاً من الزمن، "فإن سكت هؤلاء فالحجارة تتكلم".
وبالفعل نطقَ المكانُ وأسَرَ القلوبَ والعقولَ لأهميةِ هذا الموقع الديني الأخّاذ الذي خلده لنا شخصية دينية مكرَّمة في المسيحية والإسلام وهو النبي يوحنا المعمدان أو النبي يحيى الذي سبق مجيء السيد المسيح وبشّر بقدوم من يحمل رسالة المحبة والرحمة والحَنَان، وهذا معنى اسم يوحنا " الله حنّان"، والذي قُطع رأسُهُ شهادة لمواقفه العصماء في الوقوف في وجه طغاة العصر وفسادهم.
ورغم كلِّ جهود الذين ذكرتُ أسماؤهم في مقالتي السابقة بعنوان "مسرحية غنائية إستعراضية تستنطق حجارة جبل مكاور" والتي ساهمَت مجتمعةً في أن يرى هذا المشروع النور ويسلّط الإضواء على جبل مكاور الديني حيث ما زال دم يوحنا المعمدان صارخاً في وجه طغاة العصر قائلا: كفى للظلم وللحروب وللدمار وللتشريد وللقهر وللتسلط وللإستعمار والإستبداد، فلا بدّ من تسليط الضوء على من قام بتأليف هذا العمل المسرحي من كلماتٍ وموسيقى وهو قدس الأب جوزيف سويد الوكيل البطريركي للكنيسة المارونية في الأردن، والذي بكارزمته ولغته العربية العالية وأدائه المميز خطفَ الأنظار لترقُّبِ كلَّ فقرات المسرحيةِ بشغفٍ وانتظار، مفجراً ما بداخله من طاقات إبداعية خلاّقة وعطاء منقطع النظير لإبراز هذا الحدث الأقرب إلى نسخته الأصلية وإستعادة عبق المكان وتاريخه الذي سيشكل منحنى جديداً على صعيد السياحة الدينية الأردنية وإبراز هذا الموقع التاريخي الهام المتعلق بالأحداث الدينية التي ارتبطت بتاريخ بلادنا المقدسة شرقي النهر وغربه..
فليس غريباً على لبنان الفن والإبداع، وقد رأينا هذا الفّن يتفجر من قلب رجل دين صادق مع نفسه ومع إيمانه ومع عروبته ومع محبتة للأردن العظيم، ومع إنتمائه للشرق وهواه والتمسك به، ودعوة شبابه وشاباته للثبات على أرض آبائهم وأجدادهم، وعدم فقدان الأمل والرجاء بمستقبل أفضل. فمن الشرق وُلدت الحضارات وإنتشرت، ومن الشرق مهد الديانات التوحيدية إتجهت القلوب نحو باريها مقدمة له أثمن كنوز قلبها ذهباً ولباناً ومرا.
فمحبةً وتقديراً وعرفاناً للمملكة الأردنية الهاشمية وللصداقة التي تجمع الأردن ولبنان، وكما بوَصفِ غبطة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي بأنَّ "الأردن هو الرئة التي يتنفس منها لبنان"، تم إهداء هذا العمل الفني الرائع للأردن إحياء لهذا المكان الرائع، وشهادةً لحياةِ ورسالةِ يُوحنا المعمدان "شفيع الأردن".
شكرا أبونا جوزيف لأنك وحدّت القلوب معاً بتآخٍ إسلامي-مسيحي، وكم كان واضحاً إمتزاج تاريخ المكان مع الروح الوطنية وعلى وقع النشيد الوطني الأردني ورفرفة الأعلام الأردنية والزي التقليدي الأردني مُعمَّرا بالكوفية الحمراء، ورَفعِ التحيةِ وكلِّ التحيةِ للوصي الشرعي والتاريخي على المقدسات الإسلامية والمسيحية والداعم للوجود المسيحي في الشرق حضرةُ صاحبِ الجلالةِ الهاشميةِ جلالةُ الملكِ عبد اللهِ الثاني ابن الحسينِ المعظّم حفظه الله ورعاه.
لكم منّا قدس الأب جوزيف سويد كلَّ الحُّبِ والتقدير، ونقول لكم من القلب شكرا.