ما إن تدخل سوق النحاسين بدمشق القديمة، تزعجك أصوات الطرق الكثيفة للوهلة الأولى، إلا أن هذه الأصوات تتحول إلى موسيقى في وجدان الزائر عندما تجد إبداعات الحرفيين ودقتهم وصبرهم في إنتاج قطع نحاسية بالغة الجمال تعكس مهارتهم ودقتهم وصبرهم.
هذا النتاج الإبداعي تشتهر فيه دمشق، إذ يعود تاريخ المهنة إلى الألف الثانية قبل الميلاد، فيما يكافح الحرفيون للحفاظ على هذه المهنة من الاندثار بسبب الأزمة التي نالت من الإنسان وإبداعه المتوارث.
يجلس الحرفي زاهر فتينة في ورشته التي يبلغ عمرها أكثر من 80 عاماً على كرسي بسيط وأمامه منضدة خشبية متوسطة الارتفاع وقطعة نحاسية لامعة يمسك بمطرقته ومسمارا من الفولاذ طرق على تلك القطعة ليحولها من لوح نحاسي أصم إلى قطعة فنية رائعة.
يقول فتينة لـ«البيان»: «إن النقش والدق على النحاس فن دمشقي عريق يعود إلى آلاف السنين برع فيه أهل المدينة وهي مهنة متوارثة»، لافتاً إلى أن «عمر ورشته البسيطة التي تحتوي بعض جدرانها على قطع فنية نفيسة يتجاوز 80 عاماً». وأضاف فتينة أن «الأدوات المستخدمة في النقش والدق والحفر على النحاس جميعها بسيطة وبدائية، مثل أقلام النقش، المسمار، المطرقة، جميع المواد من الفولاذ».
وتابع فتينة أن «مهنة النقش تختلف عن مهنة ترتبط بنفس المعدن وهي الحفر التي برع فيها يهود دمشق وخاصة الفتيات»، مشيراً إلى أن «كلتا المهنتين تحتاجان إلى حس فني عال وتركيز وصبر».
مراحل
وعن مراحل إنتاج في تلك القطع الإبداعية، يقول فتينة «نأخذ قطعة النحاس أو الشكل الذي تم تصميمه ثم نقوم بالنقش عليها، ليتم بعدها تخميرها (أي إحمائها بالنار)، ودقها لتشكيلها كمنسف أو صينية، وفي المرحلة الأخيرة يتم تلميعها وتنظيفها لتصبح جاهزة للبيع».
وتابع أن «هناك من يقوم بالنقش على النحاس بدون تخمير أي على البارد، وهذا يتطلب مهارة استثنائية من قبل الحرفي»، لافتاً إلى أنه «كان يوجد في سوق النحاسين شخص واحد يقوم بهذا الأمر يدعى سعدو الصباغ ويتجاوز عمره حالياً 100 عام».
وأوضح فتينة أن «الصينية النحاسية التي تتم زخرفتها تحتاج وسطياً إلى 3 ساعات من قبل الحرفي لإنجازها»، لافتاً إلى أن «اسم الحرفي أحياناً يشكل أساساً في غلاء الأواني النحاسية فمثلاً أي دلة قهوة ممهورة بختم مزعل تباع بـ10 أضعاف ثمنها على الرغم أن بيع القطع النحاسية يتم بالكيلو».
ويتم النقش على عدد من الأواني منها الصواني، المناسف، دلال القهوة، أحواض للزهور، نراجيل، شعارات المناقل وغيرها.
تأثير
وعن تأثير الأزمة السورية على حرفة النقش على النحاس، قال فتينة إنه «يوجد حالياً 4 أو 5 ورشات في سوق النحاسين وعدد قليل من الورشات في باب الجابية والسويقة، ولكن جميعها لا تتعدى الـ10 ورش في حين قبل الأزمة السورية كان في دمشق حوالي 400 ورشة، حيث إنه في كل حارة من حارات دمشق القديمة يوجد ورشة نحاس».
وتابع فتينة أن «المهنة بطريقها للزوال لعدة أسباب منها غلاء سعر النحاس، حيث أثر على المبيع فسعر كيلو النحاس المشغول يصل إلى ما يقدر بـ15 دولاراً، فيما لا يتجاوز سعره في مصر 8 دولارات أي ما يعادل النصف تقريباً»، مرجعاً هذا الأمر إلى «صعوبة الاستيراد وتوافر المواد الأولية بسبب العقوبات الأمريكية الغربية».
وأردف فتينة أن «هجرة اليد العاملة أثر بشكل سلبي وكبير على هذه المهنة، حيث كان يعمل في ورشته قبل الأزمة 12 حرفياً أما الآن فيبلغ عددهم 3 فقط».
ولفت فتينة إلى أن «أحد الأسباب المهمة لتأثر هذه المهنة بشكل كبير هو تراجع قطاع السياحة في سوريا وخاصة انعدام وجود سياح أوروبيين في سنوات الأزمة حيث كان هؤلاء يقتنون القطع النحاسية الثمينة، يضاف إلى ذلك عدم قدرة السوريين على اقتناء هذه القطع فيما كانوا سابقاً يقومون باقتنائها وإهدائها في المناسبات الاجتماعية كالأعراس».
الألمنيوم بديلاً
ومع غلاء النحاس بدأت مادة الألمنيوم تحل كبديل عن النحاس، حيث يقول فتينة إنه «قبل حوالي عامين دخلت مادة الألمنيوم كبديل في هذه المهنة، ومن الممكن أن يتحول سوق النحاسين إلى سوق الألمنيوم نظراً لرخصها بنحو 75 %»، لافتاً إلى أن «منسف النحاس الذي يصل أدنى سعر له 750 ألف ليرة فيما يبلغ سعر منسف الألمنيوم 125 ألف ليرة».