لقد بشّرَت الملائكةُ في سماء بلادنا المقدسة معطيةً المجد وكلَّ المجد لله، ومعلنةً إرادة الله الصالحة بأنْ يَحّل ويعُّمَ السلام على الأرض، وَمُبشِّرَةً بِمَسّرةِ الله ببني الله الصالحين من أصحاب القلوب النقية " المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسّرة".
وربما هذا ما يحتاج إليه عالمنا على مدى الأزمان والعصور رغم تغيّر وتبدّل الأحوال، ففي هذه الأنشودة السماوية التي صدح بها جمهور الملائكة تأكيدٌ بأنَّ المجدَ لا يجب أن يكون إلا لله وحده، فحياة الإنسان يجب أن الدوام أن تعطي المجد لله، فلله وحده يؤول كلُّ المجد وليس لآخر، ولا يقدر أحد أنْ يخدمَ سيدين معاً، فإما الله وإما المال. والمال هنا يشير إلى كل ما هو مادي ومرتبط ومتعلق بهذا العالم المادي والذي لا يمكن أنْ يأخذَ منهُ الإنسان شيئاً عندما تغادر الروحُ الجسد.
فالمال يبقى وسيلة في الحياة وليس غاية بحّد ذاتها، وبدلاً من أن تؤول حياتنا لمجد الله قد تصبح ثروتنا وممتلكاتنا وغِنَانَا سبباً في هلاكنا بسبب اللهاث وراء مجد زائل لا يبقى ولا يدوم وليس من أجل ذلك المجد الذي يبقى ويدوم إلى الأبد.
لذلك فعيدُ الميلاد يُذكرنا بأنْ نعيش حياة المحبة والرحمةَ في حياتنا ونسعى لتخفيف أعباء الناس ومواساتهم وزرع الإبتسامة على وجوههم وإضاءة طريقهم بالأمل والرجاء، فمن يعملُ أعمال الرحمة إنما يمُّدُ يدَ العون الإلهية لمن يحتاجُها ويتوقُ إلى مساعدتها.
ومن ناحية ثانية فعيد الميلاد يضع على عاتقنا ضرورة أن نسعى في طريق السلام، فيطوب السيد المسيح صانعي السلام قائلا: "طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون"، فجوهر رسالة الميلاد هو أنْ نصنعَ السلام بين الناس وبين البشر والعملَ على إزالة كلِّ خصام وكلّ نفور وكل جفاءٍ وكل فرقة بين الناس وأن نزرع بدلا منها المحبة والوفاق والتفاهم والمصالحة. فكما أنّ الميلاد والجفاء لا يجتمعان، كذلك فالميلاد والبغضاء لا يتجاذبان، والميلاد والعنف لا يستويان.
فرسالة الميلاد تضع في قلوبنا رسالة نبذ العنف والتطرف والإرهاب، وخصوصاً أنَّ العنفَ قد يُمارسُ بإسم الدين وتحت غطاء الدين بسبب الفكر التطرفي الضيق الذي يَقرأ نصفَ الحقيقة ويرى نصف الصورة ويسمع نصفَ الرواية، ولربما هذا أخطر ما يهدِّدُ السلمَ المجتمعي والوطني وحالة الوئام الديني، فتعاليم السماء لا تدعو إلا لأعمال المحبة والحوار والوئام بين الناس وإحترام كرامة الإنسان بغض النظر على دينه أو لونه أو عرقه أو جنسه.
بإختصار، أشارت هذه الأنشودة السماوية بأنَّ مسرَّةَ اللهِ وبهجةَ قلبِهِ تكون من أصحاب القلوب النقية والأيادي البيضاء والأرجل الساعية في طريق السلام لا لهدف أو مصلحة سوى لأجل القيام بالواجب والمسؤولية الموكله إليهم، وكلما كبرت مسؤوليتنا كلما زاد الواجب المتوخى منّا أن نؤديه بكل أمانةٍ، مرضاة لله ووفاء للاوطان وإنتماء لقيادتها .
فمجدوا الله في حياتكم واسعوا في طريق السلام وفرحّوا قلبه بنسائم صنائعكم البيضاء.