هذه جملة نطق بها السيد المسيح شهادةً بحق النبي يوحنا المعمدان بن زكريا الذي وصفه بأنه لا يُشبه القصبة التي تحركها الريح حيث تشاء.
فرياح العالم قد تحركنا يمنة ويسرة بحسب أهوائها وميولها ونزعتها، ولكن يوحنا كان شخصاً مقتدرا مملوء من الروح القدس ومدعواً ليقف وقفة حق في زمانه أمام كل السلطات الدينية والسياسية والمجتمعية وليكون نبراساً للبشرية جمعاء وللصوت النبوي الحق للأجيال اللاحقة في الصلابة والتمسك بالقيم والمبادئ والتعاليم السماوية في وجه البطش والغطرسة والإنحلال الإخلاقي والقوى العالمية التي لا تُراعي حتى هذه الأيام أهم ما وضعه الله في قلوب البشر وهو إنساينة الإنسان والرحمة والمحبة.
كذلك يوحنا كان ذلك الإنسان الزاهد بالحياة والمتقشف عن متاع الدنيا ومغرياتها، فلم يبالي بعيشة القصور الفخمة ولا بملابس الحرير، بل قطعة من وبر الإبر كانت تقي جسده وتستره وتكفيه، فلم تغرُّه ماديات ومغريات العالم ومباهجها، بل كلُّ همه كان أن يرتفع إلى مستوى دعوته الإلهية وهو في بطن أمه أليصابات، ليكون ليس مجرد نبي عظيم يقول كلمة الحق ولا يهاب، ويوبخ ولا يبالي، ويعظ بكلام واضح وسليم غير مبالي وغير مجامل لأحد من سلطات مجتمعية أودينية أوسياسية، بل كما وصفه السيد المسيح، بأنَّهُ أفضلُ من نبي، وبكلماتً أخرى أنه أكثر من مجرد نبي، لأنه بالإضافة إلى كونه ذلك الصوت النبوي، كان ذلك الملاك البشري الذي أُرسل ليعّد طريق الرّب، ويهيئه له بدعوته الناس للتوبة ومغفرة الخطايا صارخاً في البرية " توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات".
فما أحرانا اليوم أن نكون أكثر من مجرد صوت نبوي ينادي بقيم العدالة ووقف آلة الحرب واستهداف المدنيين العزّل والعمل على إغاثتهم، بل أن نهيئ الطريق لذلك، وهذا يتطلب منا اليوم تكاتف كل الجهود الرسمية والشعبية للدفع بإتجاه وقف شلال الدماء وتوقف آلة الحرب المدمرة وإنهاء معاناة النساء والأطفال والشيوخ والمدنيين ووقف نواحهم وبكائم وحسرتهم على فقدان بيوتهم وتشريدهم من ديارهم وفقدان أعزاء على قلوبهم وإنهاء معاناتهم جرّاي عدم توفّر أساسيات الحياة وضرورياتها من ماء وغذاء ودواء وغيرها الكثير.
فما يجري الآن في غزّة منذ السابع من تشرين الأول فاق كلَّ الوصف، ولم يشهد التاريخ مثيله بهذه البشاعة وهذه الوحشية. لذلك، لا نستغربَ أن يفقد الناس حول العالم ثقتهم بالأمم المتحدة، وبمنظومة بحقوق الإنسان وبالمجتمع الدولي وبمواثيق جنيف الدولية.
فمن ينقذ عالمنا من إزدواجية المعايير ومن تجاوز القانون الدولي الإنساني وكسر المواثيق والقرارات الدولية؟!
ربما نحتاج إلى منظومة إنسانية دولية جديدة، فمن يهيء الطريق لها؟