كتاب "إلى جِهَةٍ في الغَمام" شعر محمد ميلود غرافي؛ حيث تعترف القصيدة بما جرى وما سيكون، يصوِّر لقطاتٍ وأحداثاً وكأنها قصائد/ قصص.
ويأتي عنوان الكتاب الصادر حديثًا عن "الآن ناشرون وموزعون" في الأردن في 118 صفحة من القطع المتوسط، ويضم (41) قصيدة حول الحب والحرب والأهل والذات، وأشياء أخرى.
في قصيدة "اعترافات" يؤصل الشاعر لحالة من الدهشة، إذ يقول محمد ميلود غرافي:
"لمْ يكُنْ أحَدٌ هناكْ
ليَشْهدَ أنَّنا
لمْ نَشرَبْها أبَداً تلكَ القَهوةَ
ولمْ نَخرُجْ
من تِلْكَ العَشيّةِ الماطِرةْ
إلا بَعْدَ عاميْنِ
بَرْدانَيْنِ مَعاً
كُلٌّ إلى جهةٍ في الغَمامْ".
وفي قصيدة "عَشْرُ سِنين..." يجعلنا الشاعر نشاهد مقطعاً دراميّاً بين زوجين يُقيان على الحياة تحت سقف واحد من أجل كلمة أقرب إلى الرمز "الأولاد"، فيقول محمد ميلود غرافي:
"عَشْرُ سنينٍ تَكْفي
كيْ لا تَتكَسَّرَ كُلُّ أواني البيْتِ
على مِرآة أماسينا
أو تِلفازاً آخَرَ
في السَّانْ فالينْتانْ
ولا كأسَ الشامْبانْيا
عَشْرُ سِنينٍ تَكفي
كيْ نخْرُجَ مَهزوميْنِ معاً
من حَرْبٍ خاِسرةٍ مُنذُ البدءِ
ويَكفي نِصْفُ شَظاياها
كيْ أتيقَّنَ أنِّي مَسكونٌ بالعزلةِ
أو أشهدَ أنكِ طيبةٌ دوماً
بينَ بُكائينِ
وفاتنةٌ
في فُسْتانِ السَّاتانْ
وحذاءِ الكَعْبِ العالي...".
وكأن ظلال الحالة النفسية في القصيدة الفائتة لها آثار أوسع في المجتمع من حول الشاعر، أو بطل قصائده، إذ يقول في القصيدة التالية مباشرةً، وهي بعنوان "محاولة":
هذا الطريقُ الزِّفْتُ
صوْتُ المُذيعِ
ونشرةُ الأحْبارِ
السياسةُ
الراياتُ
والشعراءُ
وهذهِ الدُّنْيا
كُلٌّ خَرابُ...
قادر هو الشاعر على أن يبكي قارئه، حتى لو قُرِئَت قصيدته بعد ألف عام، يقول غرافي في قصيدة "رَغَواتُها" عن أمه/ النموذج الذي نجح أن يجعلنا نشعر أنه يتحدث عن أمهات الناس جميعاً إذ يقول:
"إيهٍ أمّـي! منْ يفْرِكُ الآنَ ذنْبي الذي ضيّعْتُ بهِ لمسةً منْ يديْكِ ناعمةً وضيّعْتُ البَياضَ الذي لا يَعودُ.
إيهٍ أمّي!
حبْلُ الغسيلِ الآنَ
فوقَ السَّطحِ
حَبْلٌ فقطْ
للّذين بلا
مشْنَقةْ".
متبعاً قصيدته تلك بأخرى عن الأب/ النموذج كذلك، وربما الرمز للكفاح، فيقول في قصيدته المعنونة "مِقصُّ أبي":
"سيَذْكُرُهُ بِكلِّ صِفاتهِ الحُسْنى
وغِمْدهِ الجِلْدِ
والوزْنِ الخفيفِ
سَلاسةِ القَصِّ
جَرْسِ تَقاطُعِ مِقبَضيْهِ في شعَرٍ
تجعَّدَ أو يَلينُ
وقدْ يقولُ:
بهِ استَبقْتُ الشمسَ
أَطعمْتُ خَمْسَ حَواصلَ
واخْتبَرْتُ بهِ الحَياةَ
وخِلتُهُ يوْماً دليلَكُمُ إليَّ
فصارَ لي مَتْنَ الكِتابِ
وسبْحةً في إِصْبُعَيَّ
فهاتوا الحسابْ!".
وقرب ختام الديوان نلتقي قصيدة "دهشتان"، فيقول في أحد مقاطعها الواقعية جدّاً:
أنا الآنَ في قبْضةِ الأيْفونْ. أقايِضُ الوقتَ بـTikTok كيْ أرى في امْتدادِ الليلِ ما لا يُرى تحْتَ الشمسِ مِنْ غَضبِ الآلهةِ التي تَحْجِزُ اللامَعْنى في الكِتاب نِكايةً في هاتِفٍ خَلَويٍّ يَطلُبُ الصّلواتِ عَشْراً ولَوْ في الصينْ.
ويضع محمد ميلود غرافي وصيته بالقصيدة الأخيرة، التي عنونها "تلك العبارة"، قائلاً:
«رجاءً
لا تكتبوا
نفْسَ الحُروفِ
تحتَ عِبارةٍ بيضاءَ في خَلفيّةٍ سوْداءَ قاتمةٍ تَقولُ إنّي:
"في ذمّةِ اللهِ«".
ومن الجدير بالذكر أن محمد ميلود غرافي شاعر مغربي مقيم بفرنسا حيث يشتغل باحثا في الأدب العربي وتحليل الخطاب بجامعة ليون الثالثة.
أصدر قبل هذه المجموعة ثلاث مجموعات شعرية ورواية وترجم العديد من الشعراء العرب المعاصرين إلى الفرنسية. يشتغل منذ سنوات عن المنفى والمهجر في الرواية العربية وصدر له بالفرنسية سنة ٢٠٢٣ مع المستعربة الإيطالية مارتينا شانسي كتاب شعرية السرد المهجري.