العنف الجامعي ليس حدثًا طارئًا، بل نتيجة تراكمات طويلة من الإهمال الثقافي، والارتباك السياسي، والسطحية التعليمية.
إن العنف الجامعي ليس مجرد تصرّف طائش أو شجار عابر، بل هو انفجار مكبوت ينبع من تداخل معقد لأزمات المجتمع بأسره، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ويعكس هشاشة منظومتنا الثقافية والتربوية، ويكشف قصور السياسات الجامعية في إدارة السلوك الطلابي وتنمية الانضباط الذاتي، وأحيانًا غياب البرامج التربوية الشاملة التي تهتم بالجانب النفسي والعاطفي للطلاب، والافتقار إلى مهارات الحوار والتعامل مع الاختلاف. كل صرخة، وكل تهديد، وكل مشاجرة، ليست حادثة فردية، بل صاعقة تحذر من الانحدار نحو الفوضى الاجتماعية، ومن تآكل القيم الأخلاقية والإنسانية، ومن انعكاس سلبي على الصحة النفسية للطلاب، والتي تؤثر بدورها على التركيز الأكاديمي والإنتاجية العلمية، وتؤجج شعورهم بالعزلة والإحباط، وقد تتحول إلى أزمة طويلة الأمد تهدد الثقة بين الطلاب وأعضاء الهيئة الأكاديمية.
فالجامعات، تلك الحقول التي نزرع فيها بذور الأمل والمعرفة، يجب أن تكون منارات للفكر النقدي، ومختبرات لصناعة القادة، وساحات للحوار البنّاء، لا ساحات خصومة وعنف، أو منافسة مفرطة على النفوذ والمكانة الاجتماعية. ويجب أن تتحمّل المؤسسات التعليمية مسؤوليتها الكاملة في ضبط الانفعالات، وتفعيل برامج التوجيه الأكاديمي والأخلاقي، وتطوير آليات لرصد السلوك الطلابي والتدخل المبكر، وإنشاء قنوات آمنة لتلقي الشكاوى والملاحظات، إلى جانب تقديم الدعم النفسي والاجتماعي المستمر، ودمج برامج لتنمية مهارات حل النزاعات والتفكير النقدي، وتعليم مهارات إدارة الضغوط والصراعات، بما يحقق بيئة تعليمية صحية ومستقرة.
ولا يمكن إغفال دور الإعلام الاجتماعي، الذي يمثل قوة مزدوجة، فهو قادر على التثقيف والتحذير، لكنه أيضًا قادر على تضخيم النزاعات وزرع البلبلة، إذا ما استُخدم بلا ضوابط. إضافة إلى ذلك، يجب التعامل مع تأثير وسائل التواصل على العنف الجامعي، بما في ذلك التنمر الإلكتروني، ونشر الشائعات، والانقسامات الأيديولوجية والسياسية التي تتسرب من المجتمع إلى الفضاء الجامعي، وتأثير هذه الظواهر على المشاعر العامة للطلاب، وسلوكهم داخل القاعات الدراسية والمختبرات والساحات الجامعية.
ومن المهم أيضًا النظر إلى تأثير العوامل الاقتصادية والاجتماعية المحيطة بالطلاب: البطالة المرتفعة، الضغط الأكاديمي المكثف، ضعف فرص التدريب العملي، وعدم توافر المنح الدراسية بشكل عادل، إضافة إلى الصراعات الطبقية والتفاوت في الموارد، كلها عوامل تغذي شعور الإحباط والغضب، وتخلق بيئة خصبة للعنف والانفعالات المفرطة. كما يجب مراعاة الاختلافات الثقافية والعرقية، والتمييز بين الجنسين، والتحديات المتعلقة بالاندماج الاجتماعي للطلاب القادمين من مناطق مختلفة، وكل ذلك يضع الجامعة أمام مسؤولية تربوية وأخلاقية ضخمة، فهي ليست مجرد ناقل للمعرفة، بل مصنع للقيم الإنسانية والاجتماعية.
وعلى صعيد أوسع، فإن العنف الجامعي يعكس أزمة الثقة في المؤسسات الرسمية، ويفتح باب النقد للمجتمع بأسره، فهو يضع سمعة الوطن أمام المجتمع الدولي على المحك، ويزعزع ثقة أولياء الأمور، ويهدد قدرة الشباب على المشاركة الفاعلة في التنمية الوطنية. لذا، المطلوب هو بناء مجتمع جامعي متماسك، يقوده العقل ويحتضن العقلانية، ويصون القيم الأخلاقية، ويستشرف المستقبل، ويجهز الطلاب لمواجهة التحديات الكبرى مثل العولمة، والتطور التكنولوجي السريع، وانفجار المعلومات، وتغير متطلبات سوق العمل، مع التأكيد على أن التعليم لا يقتصر على نقل المعرفة فحسب، بل يشمل بناء شخصية متزنة، ووعيًا أخلاقيًا، وعقلًا نقديًا قادرًا على مواجهة التحديات بأمانة وشجاعة.
وفي هذا السياق، يجب أن تُصبح الجامعات وطنًا مصغّرًا يرفع راية الفضيلة والعلم والوعي والمسؤولية الوطنية، منارة حقيقية تُضيء الطريق أمام شبابنا نحو التميز والإبداع، ومجتمع يرتقي بالفكر قبل أن يرتقي بالقوة، ويصنع أجيالًا قادرة على مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين بعقل رصين، وقلب واعٍ، وعزم لا يلين، ويجعل من العنف الجامعي مجرد صرخة ماضية، لا أكثر، تحثنا على إعادة النظر في المنظومة التعليمية، الاجتماعية، والنفسية، لتظل الجامعة معقلًا للأخلاق، ومختبرًا للقيادة، وميدانًا للتفكير الحر، ومركزًا لصياغة المستقبل المشرق للأمة بأكملها.