تصريحات نتنياهو وترامب الأخيرة تُعيدنا إلى مشهدٍ سياسيٍ عبثيّ، يُراد من خلاله صناعة واقعٍ موازٍ لا يمتّ للحقيقة بصلة. فكلاهما يتحدث بلغةٍ منفصلةٍ ومتناقضة عن الواقع، لكنهما يلتقيان عند هدفٍ واحد: تسويق الوهم على أنه إنجاز، وتزييف الحقائق على أنها سياسة ناجحة.
نتنياهو، في خطابه الأخير، يحاول إقناع الإسرائيليين بأنه لم يوافق على وقف الحرب إلا بعد استعادة جميع الرهائن وجثامين القتلى، معتبرًا ذلك "إنجازًا” له. غير أن الواقع يقول عكس ذلك؛ فإطلاق سراح الرهائن لم يكن نتيجة "قوةٍ عسكرية” كما زعم، بل جاء ثمرة قبول المقاومة الفلسطينية لمبادرة ترامب، التي كانت تهدف إلى وقف العدوان على الشعب الفلسطيني في غزة. ووفق تلك المبادرة، جرت مفاوضات تم بموجبها تبادل الرهائن الإسرائيليين بالأسرى الفلسطينيين، بأعداد تفوق أضعاف ما أُفرج عنه من الإسرائيليين. فأيّ إنجازٍ أو بطولةٍ يتحدث عنها نتنياهو؟!
يزيد نتنياهو على ذلك بادعائه أنه حقق هدف الحرب المتمثل في "تدمير حركة حماس”، رغم أنه نفسه جلس مع قادتها الحاليين للتفاوض، في اعترافٍ غير مباشر بفشل هذا الهدف. لقد قتل بعض قيادات الحركة، لكنه لم يتمكن من القضاء عليها، ولم ينجح في إخراج أهل غزة من أرضهم رغم ارتكابه أبشع المجازر وتدميره البنية التحتية بشكل شبه كامل. ومع ذلك، بقي أهل غزة صامدين، متمسكين بأرضهم وحقهم في الحياة.. وفي هذا فشل هدف آخر من أهدافه من وراء هذه الحرب إلا وهو التهجير...
أما ترامب، فيواصل بدوره خطابًا لا يقل غرابةً عن خطاب نتنياهو؛ فهو يتعامل مع الأحداث بعقلية "رجل الصفقات”، وكأنه ما زال يعيش في زمن النفوذ الأمريكي المطلق، متجاهلًا التحولات العميقة التي تشهدها المنطقة والعالم. قراراته متناقضة ومتقلبة؛ فهو يطالب المقاومة بالالتزام بوقف إطلاق النار، ثم يمنح إسرائيل "حرية الدفاع عن النفس” ولو خالفت الاتفاق. وفي الوقت نفسه، يهدد حماس بالإبادة إن خرقت الهدنة، ثم يعود ليقول إن خلافه ليس مع قادتها بل مع "المتمردين” منهم!
وتمتد تناقضاته إلى ملفاتٍ أخرى؛ ففي حديثه عن العلاقة مع الصين، تارةً يقول إن "الصين تنافسنا في المعادن النادرة وسنواجهها بزيادة الرسوم الجمركية”، ثم يعود ليؤكد أن علاقته مع الرئيس الصيني "ممتازة”، وأنه سيزور بكين العام المقبل، قبل أن يختم بقوله المهدد: "لدينا طرقٌ أخرى إن لم تُجدِ زيادة الضرائب”!
في المحصلة، تبدو تصريحات نتنياهو وترامب مشاهد من خطابٍ من عالمٍ آخر، يحاول كلاهما من خلاله التغطية على فشلٍ سياسيٍ وأخلاقيٍ واضح. فموازين القوى تتغيّر، والرأي العام العالمي لم يعد يبتلع الروايات الجاهزة، فيما تكشف صور الدمار في غزة وصمود شعبها زيف تلك الشعارات التي يروّجانها باسم الأمن والسلام.