في خضم التطورات المتسارعة والمتقلبة في قطاع غزة، وإعادة توسيع نطاق الحرب واختراق الاتفاقيات المؤقتة، يبدو المشهد وكأنه يدخل مرحلة جديدة خطيرة يمكن وصفها بـ "حالة اللا سِلم واللا حرب". إن هذا التذبذب المتعمد في الأداء الإسرائيلي، خاصة من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، يشي بمحاولات حثيثة للبحث عن ذرائع ومبررات من أجل العودة لتجديد العدوان واسع النطاق على القطاع، بالإضافة إلى تصعيد موازٍ ومقلق في الضفة الغربية. لغاية الساعات الأخيرة التي سبقت التصعيد الخطير، والذي شمل قصف محيط مستشفى الشفاء بموافقة ضمنية من واشنطن، كانت إسرائيل قد خرقت اتفاق الهدنة المؤقتة بمعدل مذهل تجاوز 125 مرة، وهو ما أسفر عن سقوط أكثر من 90 شهيداً و340 جريحاً. لم يقتصر الخرق على الاستهداف، بل تعدى ذلك إلى إغلاق معبر رفح بشكل كامل وعدم إدخال المساعدات، أو حتى تأخير شاحنات المساعدات التي كان من المفترض أن تصل بمعدل يفوق 600 شاحنة يومياً، ومنع دخول الآليات الثقيلة المخصصة للمساعدة في الحفر وإخراج الجثامين المدفونة تحت الأنقاض.
إذا ما أرادت القوى الدولية الالتزام بالاتفاق وبنوده ووقف الحرب بشكل حقيقي، فإن الرد المنطقي على هذا السلوك المتكرر لخرق الاتفاقيات الدولية ليس في مواصلة تزويد إسرائيل بالسلاح، بل في فرض العقوبات عليها بشكل فوري، وعلى الإدارة الأمريكية، إذا كانت جادة في وقف الحرب، ممارسة ضغط مباشر وحقيقي لوقف سلوك نتنياهو التصعيدي.
لقراءة السلوك المضطرب لنتنياهو، نجد أنه مٌلاحق بفشل ذريع منذ بداية هجومه على غزة، حيث فشل في تحقيق أي من الأهداف الرئيسية الأربعة التي وضعها للهجوم، وأهمها القضاء الكامل والنهائي على حماس وإتمام مخطط "التطهير العرقي" للسكان. نتنياهو يواجه أزمة داخلية متفاقمة يحاول تصديرها للعالم، ومن ثم فإن محاولته تجديد "حرب الإبادة" والعودة للتصعيد العسكري يمكن قراءتها كاستراتيجية يائسة للهروب من مستنقع المساءلة والفشل الذي ينتظره بمجرد انتهاء القتال. بالتوازي، يمثل ما يحدث في الضفة الغربية تصعيداً خطيراً، لا يقتصر على تنفيذ عمليات إعدام ميداني في جنين واحتجاز الجثامين، بل يتجسد في جنون الاعتقالات المستمرة بشكل يومي، وإعادة اعتقال الأسرى الذين أُطلق سراحهم ضمن اتفاق التبادل الأخير، وهو ما يعد اختراقاً إضافياً للاتفاق نفسه. كما تواصل عصابات المستوطنين الإسرائيليين اعتداءاتها على المدنيين وممتلكاتهم، بالإضافة إلى مصادرة الأراضي بشكل متسارع، بعد مصادرة أكثر من 16% من مساحة الضفة الغربية خلال العامين الماضيين فقط. إن وقف هذه الحرب وردع الاحتلال عن تصعيده يتطلب تحولاً جذرياً في الاستراتيجية الدولية والعربية، يجب أن يكون الردع من خلال تصعيد الحملة العالمية لفرض العقوبات على إسرائيل، ووجود موقف عربي موحد متصاعد، وموقف دولي مستمر ومتنامٍ للمقاطعة الشاملة وعزل إسرائيل عن العالم، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، حتى تلتزم بوقف العدوان وتنفيذ القرارات الدولية. إن بقاء غزة والمنطقة في هذه الحالة الهشة من "اللا سِلم واللا حرب" ما هو إلا مقدمة لمزيد من الإبادة، ويتطلب يقظة دولية حقيقية للجم العدوان لا لتمويله.