تصريح رئيس الوزراء السابق بشر الخصاونة في إعلان بودكاست العرب كان مجرد ترويج لمقابلة كاملة لم تُعرض بعد. لكن المفاجأة أن بعض المواقع الإخبارية المحلية سرعان ما ركضت وراء الترند بدون تحقق، وحولت مقاطع الإعلان إلى أخبار عاجلة مؤكدة على لسانه. بعد ذلك، عندما بُثت الحلقة كاملة، اتضح أن الكلام المنسوب له لم يُقل بل نفاه تماما وتم فهمه بشكل خاطئ.
القصة لم تكن مجرد سوء فهم؛ بل كشفت خللاً بنيويًا في تعامل بعض وسائل الإعلام مع أدوات النشر الجديدة، وتعطشها للمشاهدة والانتشار ولو على حساب المعايير المهنية.
من برومو إلى " خبر عاجل "
البرومو بطبيعته منتج مختصر، انتقائي، يسلّط الضوء على ما هو جذاب وصادم لإثارة الفضول. لكنه ليس نصًا نهائيًا صالحًا للنشر الإخباري.
ورغم ذلك، تعاملت بعض المواقع مع البرومو وكأنه مادة كاملة، دون انتظار البث الأصلي أو التواصل مع المصادر لتدقيق المحتوى. هكذا وجد الجمهور نفسه أمام "تصريحات” رسمية منسوبة لرئيس وزراء أسبق… لا وجود لها حرفيًا في الحلقة.
هذه الثغرة الإعلامية أضرت بسمعة المنصات التي سارعت للنشر، ودفعت الجمهور للتشكيك في مصداقية النقل الصحفي، آخذة معها ما تبقى من ثقة في السوق الإعلامي الذي يزداد ازدحامًا واضطرابًا.
فهم البودكاست… قبل الحكم
البودكاست بطبيعته مساحة حرة، لا تخضع لقواعد الإعلام التقليدي الصارمة. يتعمّد الإثارة أحيانًا، بتقطيع المشاهد وعنونتها بطريقة جذابة لخلق ضجة، وهذا ليس سرًا ولا خطأ بحد ذاته.
لكن الخطأ يقع عندما يتعامل الصحفي مع منتج دعائي promo بوصفه مصدرًا أصليًا للمعلومات، وينقل عنه ما يستجر الانطباعات بدل الوقائع.
الفرق بين الإثارة والخبر جوهري؛ فالإثارة تسعى لجذب الانتباه، بينما الخبر يسعى لإيصال الحقيقة. وعندما يتبنّى الصحفي منظور صانع المحتوى بدلاً من دوره كناقلٍ موضوعي، تختلط الأدوار… وتضيع الحقيقة.
الإعلامي المسؤول يدرك أن البرومو ليس وثيقة خبرية ولا يجوز نشر تصريح دون مشاهدة السياق الكامل وهنا نضع بعض القواعد المهمة ومن ابرزها أن العاجل ليس بطاقة سحرية… بل مسؤولية والسبق ليس قيمة إذا كان على حساب الصحة والمصداقية .فيما تبدا المهنية من الفهم: ما طبيعة المصدر؟ ما أهدافه؟ ما حدوده؟ وفي هذه الحالة، لم يكن مصدرًا رسميًا، ولا تصريحًا مكتملًا، بل مجرد ترويج مكثّف لزيادة الانتشار.
أهمية غرفة الأخبار… ووجود رئيس تحرير
في فوضى السرعة، يبرز دور رئيس التحرير بوصفه العقل الأخير الذي يرى الصورة كاملة هو من يوازن بين عدة قواعد هي قيمة النشر ودقّة المحتوى ثم أثره على السمعة و وسياقه العام
وهنا أوكد أن وجود رئيس تحرير بخبرة وبعد نظر يمنع اندفاع المحرر نحو ما "يرتفع على السوشيال ميديا”، ويعيد ضبط البوصلة المهنية: هل ما ننشره حقيقة؟ هل سيثبت أمام اختبار الزمن؟ إن لم يكن، فلا مكان له في واجهة الموقع.
ونجيب على سؤال مهم وهو ما المطلوب بعد تكرار مثل هذه الحالات في المؤسسات الإعلامية ؟ أولا :عدم اعتماد البرومو مصدراً للنشر ثم الانتظار حتى ظهور الحلقة وتحقّق التصريحات والاهم التمييز بين صانع المحتوى الصحفي وصانع المحتوى الترفيهي مرورا بنشر المحتوى في سياقه الحقيقي دون اجتزاء وأخيرا إعادة الاعتبار لمراجعة التحرير قبل النشر.
ما حدث ليس سقطة عابرة، بل جرس إنذار
عندما تتخلى المواقع عن دورها كمؤسسات خبرية، وتتحول إلى حسابات سوشيال ميديا أكبر حجمًا… تسقط المهنية، ويتضرر الجمهور أولًا والمشهد الإعلامي ككل ثانيًا.
في زمن السرعة، تبقى الثقة رأس مال الإعلام وكل "عاجل " بلا تحقق، يخصم من هذا الرصيد وباختصار البرومو مادة إعلان، لا خبر والإعلام المحترف يعرف جيدًا أن الحقيقة لا تُقتنص من إعلان ترويجي بل تُبنى بالتأني والدقة والانضباط.