نيروز الاخبارية :- رثى الزميل باسل الرفايعة والدته، التي انتقلت الى رحمة الله تعالى الشهر الماضي.
وكتب الرفايعة:
يتيمةُ الأم. الفتاةُ الريفيّةُ التي تزوجت عسكرياً من العائلة، لَمْ تره. تخجلُ من نُطقِ اسمه. كانَ عليها أنْ ترتدي كعباً عالياً، لتقنع القاضي بأهليّتها للزواج. لا تعرفُ شيئاً سوى أنَّ رجلاً سيأخذها من قريةٍ إلى عمّان.
تلكَ أمي. لم تذهب إلى مدرسة. ذهبت باكراً إلى الحصيدةِ والحقولِ والأغنام والطوابين وخبز الصاج، ورنين الحليب في قاعِ المِحلاب. سنواتٌ قليلةٌ في عمّان، عاشت ترويها أحلاماً ودهشة. لَم تدع لها نكسةُ حزيران مزيداً من المشي في جبل النزهة وشارع بسمان، والجلوس في مطعم السلام، فأعادتها إلى "بئرخداد" الجنوبية. حيثُ القرى بعليَّةٌ، والبشرُ والدوابُ والطيورُ، وحيثُ تبيعُ النساءُ الأساورَ والقلائدَ لسنواتِ المحلِ، ويتقلدنَ التعب.
تلكَ أمي. ترقدُ منذُ أربعين يوماً في مقبرة شمال عمّان. الورّادةُ الحصّادةُ، كانت تضجرُ من الشتاءِ. تضيقُ من ألف زمهرير وشرقيّة وحليتٍ أكلَ من عظامها في بئرخداد. الخبّازةُ كانَ لها طابونٌ وصاجٌ، والقمحُ من حصيدها وتغميرها، واللبنُ من شِياهها، ومؤونةُ الشتاءِ مِن قثائها، ورائحتهُ من حزنها البعيد.
تموتُ الشجرةُ لذبولِ الثمار. كانت أمي شجرةً، أنهكها موتُ الثمار. ماتَ لها خمسةُ أطفال، وتكفَّلَ الانتخابُ الطبيعيُّ بنجاةِ سبعة. ثمّ دهمها السكريُّ في ثلاثيناتها. كانَ عليها أن تعيشَ أربعينَ عاماً مع حُقَن الإنسولين، ثمَّ كانَ على الشجرةِ احتمالُ الرياحِ والعواصفِ وقسوة الفصول حتى نامت في مقبرةٍ في عمَّان، التي أحبتها شابةً، وصعدتْ جِبالها، وأكلت من لوزها الأخضر، ومن عوّامةِ البَلَد، قبلَ أوان السُكَّر بمرارته في العيون والعظام، وبيباسه على الشفتين.
تلكَ أمي، تذبلُ من زمان. كنّا نرى الظلَّ تحت الشجرة، ولم نكنْ تعرفُ شيئاً عن رقّةِ اليخضور. كانت تهبطُ بأغصانها وثمارها إلى قاماتنا الصغيرة، ولم نكن ندري ما هي قسوة الانحناء، وأيّ غصنٍ يتكسّر.
أيَّتها الشجرةُ التي في مقبرةِ شمالِ عمّان. لا ظلّ بعدك أبداً. لا شيئ، إلا رائحتك في البيت. لقدِ كنتِ البيت. لا بيت إلا برائحتك، تلك التي كانت تصعدُ من إبريق قهوتك الكحليّ، ومن نمليّتك إياها، من آنيةِ التوتياء في مطبخك، من مسابحك، وعثراتكِ في الكلامِ، ومن شتاءات قديمة، أحياناً، من بقايا طعام متروكٍ في الفرن، لعابري سبيل، يُسرعون إلى الرائحة.