تختلفُ الحربُ عن المقاومة اختلافاً جذريا في الدوافع والاهداف، والاساليب والادوات، واطراف الصراع. فالحرب من اختصاص الجيوش النظامية للدول. وهي عمل مؤقت حتى وإن طال أمدها. ولا تكون اهدافها دائما مشروعة، بل إنها في الغالب غير مشروعة.
أما المقاومة فهي process . أي سلسلة متصلة ومتواصلة ومتشعبةٌ من المعارك الصغيرة المتناثرة على وجه الجغرافيا والزمن معظمها نكسات، وبضع انتصارات، مما يجعل من الصعب التنبؤ بموعد انتهائها ومصيرها.
في الغالب تكون اهداف المقاومة مشروعة وكذلك ادواتها. والمقاومة تمثل The last resort أي الخيار الاخير والفعال والمؤثر الذي تلجأ اليه الحركات والمنظمات والقوى الشعبية في مواجهة جيوش غاشمة تغتصب الاوطان، او تغتصب الحقوق والحريات.
مَثلتْ المواجهةُ التي حدثت بين حزب الله واسرائيل عام ٢٠٠٦ نهاية لعهد المقاومة بعد أن نجحت اسرائيل في تحويلها من مجرد حلقة من حلقات المقاومة طويلة الامد الى حرب نهائيةٍ حاسمة. ولذلك كان من الطبيعي أن تربح اسرائيل الحرب غير المتوازنة التي خططت لها بذكاء واقتدار، وأن يخسرها الحزب الذي تزحلق الى أتونها الحارق كمركبة فقدت كوابحها ومِقوَدِها. لم تتوقف تلك الحرب الا بعد تحقق الانتصار الاسرائيلي الناجز حسب المعايير والمقاييس العسكرية رغم كافة مزاعم النصر التي زعمها زعماء الحزب. إذ تم وضع الاغلال على خيارات الحزب، وتم محاصرة حركتهم وحبس انفاسهم وتفكيك صندوقهم الاسود.
منذ نهاية تلك الحرب، انتهج حزب الله الايراني في لبنان سياسة الصمت الاستراتيجي نتيجة الخسائر الفادحة في الارواح والممتلكات التي تسببت بها له وللبنان مغامراته المتهورة الاستعراضية الدعائية والتي افقدته الجبهة الداخلية الحاضنةِ له.
بعد تلك الصدمة والهزيمة المخجلة خمس سنوات فقط، كان الحزب على موعد مع تهديد وجودي جديد ومؤكد عام ٢٠١١ حين اشتعلت نيران الفتنة في سوريا . لم يجد الحزب مفرا من الانغماس في هذه الحرب غير المقدسة، بعد أن أيقن ان الحبل سيلتف حول رقبته حال سقوط النظام الحاكم. لأن سقوط النظام السوري سيؤدي الى فقدان العمق الاستراتيجي للحزب وخط دفاعه الثاني، وميناء التزود الوحيد بالسلاح والذخيرة المرسلة اليه من حليفه الاستراتيجي ايران. بل يمكن القول ان إجتثاث الحزب كان هو الهدف الاول للازمة السورية ومبررها اكثر من استهداف نظام الحكم الرسمي نفسه.
وحتى يتمكن الحزب من الانغماس في الفتنة السورية، ويستخدم معظم قوته فيها، كان من الضروري والحتمي أن يأمن على نفسه من اسرائيل حتى لا تستغل الفراغ العسكري في الجنوب اللبناني، وتعاود احتلالها للشريط الحدودي وربما ما هو اعمق.
تطلب حصول الحزب على ضمانات من اسرائيل، أن يقدم هو ايضا ضمانات مقابلة لاسرائيل. الضمانات المتبادلة تُرجِمتْ الى توقيع غير معلن على اتفاق انهاء حالة العداء بين الطرفين.
ما تقدم بيانه، يفسر توقف التهديدات من حزب الله لوجود اسرائيل، واختفاء وعوده وتعهداته بتحرير الاراضي الفلسطينية المحتلة والتي هي امتداد لوعود الثورة الايرانية الشيعية. كما يفسر اقتصار لغة قادة الحزب على تحذير اسرائيل من عواقب الاعتداء على مواقع الحزب أو اغتيال أي من قادته. وتكرار مقولة اذا ضربت اسرائيل موقعا للحزب سيضرب الحزب موقعا أو مواقع اسرائيلية موازية. اذا قتلتم مقاوما سنقتل جنديا. اذا اطلقتم قذيفة سنطلق قذيفة مقابلها. العين بالعين والسن بالسن، واذا صَمَتْم صمتنا. اذا رضيتم بوجودنا وتقبلتموه فنحن راضون بوجودكم ونتقبله. أي أن الحزب قد انتقل من موقع الهجوم المتوقع ممن يريد التحرير الى موقف الدفاع السلبي.
بلغة اخرى اكثر وضوحا، توصل حزب الله الى معاهدة اعتراف واقعي متبادل مع اسرائيل. لم تعد بموجبها اسرائيل عدوة للحزب، ولم يعد الحزب عدوا لاسرائيل ولم يعد معنيا بغير بقاءه كقاعدة عسكرية لايران. بل إن الحزب قد إنضم بموجب هذا الاعتراف الواقعي de facto recognition الى منظومة الدول الحامية لحدود اسرائيل، والضامنة لهدوء الجبهات. أي ان الحزب قد قبل بدور وظيفي مقابل بقائه وسيطرته على لبنان.
كان من ثمرة السيطرة المطلقة للحزب على مقدرات لبنان، نهب موارد لبنان وموجودات البنوك وتهريبها الى سوريا وايران لتمكين النظامين من الصمود في وجه العقوبات الصارمة عليهما. فلولا تحويلات الاموال المنهوبة من لبنان إضافة الى المنهوبة من العراق لكان نظاما الحكم في الجمهورية الشيعية الايرانية وسوريا من اخبار الماضي. اذ تجاوز مبلغ الاموال المنهوبة من العراق ٣٥٠ مليار دولار حسب بيانات الحكومة العراقية. ولهذا باركت القيادة الايرانية سرا اتفاق حزب الله مع اسرائيل.
بناءا على ما تقدم، فإنه يتوجب على الحالمين بوصول الرايات السوداء وفيلق القدس الى القدس لانقاذها ان يفيقوا من احلامهم. كما أن عليهم ان يعقلوا ويفهموا لماذا لم تُمَلِّكْ ايران، حماس وبقية الفصائل في غزة سلاحا نوعيا مؤثرا، وتدريبا ملائما على اساليب مقاومة اسرائيل. لقد خُدِعَ شعب غزة والشعب الفلسطيني في الضفة وأنصارهم بتصريحات زعماء ايران وزعماء حزب الله، وتهديدات الانتقام المزلزل التي يتكرر اطلاقها من قبل ملثمين يمتشقون البنادق ينتمون لفصائل الاسلام السياسي في غزة المتحالفين مع ايران. تلك التصريحات والتهديدات التي لم تؤذي سوى شعب غزة، والمغرر بهم من شعب الضفة الغربية.
الصمت الاستراتيجي يختلف عن الصمت العفوي او الصمت اللارادي، او صمت الخرسان. كما أنه يختلف جدا عن الصبر الاستراتيجي. إنه الصمت المحسوب. الصمت المُتَرجِمُ لسياسة مدروسة لها اهداف تُبتَغى ومصالح تُرتَجى، وأدوات تحققها، ومعايير ومقاييس للمراجعة والتقييم ومن ثم الثواب أو العقاب.
الصمت الاستراتيجي جربته المنظمات المسلحة في غزة. فقد سبق وأن عَبْرَ قادة حماس عن قبولهم لهدنةٍ مفتوحة مع اسرائيل. كما وافقت حماسُ وبقية الفصائل مرارا على تفاهمات امنية تُوقِفُ المواجهات والتحرشات والاستفزازات بوساطات مصرية او قطرية.
اهم ما يعنيه الصمت الاستراتيجي هو القبول بالامر الواقع، اي توقف المقاومة، واطلاق العنان وفتح الاسواق لابواق المزايدات.
الالعاب النارية التي شاهدناها كان لها هدفين، الاول ترجيح كفة مطلقيها في الانتخابات ، والثاني إحياء أمل نتنياهو في تشكيل الحكومة بتمكينه البطش بالسكان العزل المستضعفين. تفاهمات وتبادل مصالح بين من يحكمون. كلاهما هدفه البقاء بأي ثمن.
الصمت الاستراتيجي هو بمثابة توقيع على صك الاستسلام. الصمت الاستراتيجي يمثل حالة اللاحرب واللاسلام. الصمت الاستراتيجي اسوأ من صفقة القرن على سوئها.