مُعظمُ الشرق اردنيين، مهاجرون تركوا مساكن اجدادهم سواءاً في الجزيرة العربية، من اليمن جنوبا وحتى تبوك شمالا، او من العراق عربه وكرده، او من مصر وسوريا، او من جمهوريات الاتحاد السوفيتي سابقا، أو المناطقِ التي خضعت للدولة العثمانية. وبالطبع هناك هجرات لم تتوقف من الاردن الى ما يجاورها من مناطق. أي أن حركتي المد والجزر والجذب والطرد لم تتوقفا في أي زمن. فالاردن هو الجسر الرابط ما بين الجزيرة العربية وشمال افريقيا من جهة وبلاد الشام والعراق وتركيا وبلاد فارس وما ورائها من جهة أُخرى.
شأن الاردنيين هذا، لا يختلف عن العراقيين والسوريين والمصريين واللبنانيين والفلسطينيين والامريكان والاستراليين والكنديين. فمنذ الازل يهاجر الناس طلبا للرزق والامان.فالهجرة ظاهرة انسانية قديمة قدم الانسان، وستستمر الى قيام الساعة.
استقر جزء من المهاجرين الى الاردن فيه، واصبحوا ينتمون الى منطقة رَسَمتْ حدودها اتفاقية سايكس بيكو، فأصبحت حصتهم وحقهم ونصيبهم وحظهم من هذا العالم الواسع، كما قُسِمتْ حصص غيرهم من الشعوب.
من حق الاردنيين، بل من واجبهم ان يتمسكوا بما قسمته الاقدار لهم من ميراث السلطنة العثمانية في المنطقة العربية، رغم أنهم كانوا يستحقون المزيد من الاراضي القابلة للزراعة ومصادر المياه.
وبالرغم من بخل قلم المساح البريطاني على الاردنيين، فإن أعين المهاجرين اليهود الى فلسطين ومنذ البدايات ظلت تتجه بطمع صوب شرق الاردن. ففلسطين اصغر من احلامهم بسبب محدودية مساحتها وشح مياهها، ولأن اغلب اراضيها صحراء أو غير صالحة للزراعة بسبب وعورتها وطبيعتها الصخرية.
وكما اقتنع اليهود، ومن ثم اقنعوا الدول الاستعمارية بأن فلسطين ارض بلا شعب، وأن اليهود شعب بلا ارض، لذلك لا ضير من أن يحصلوا عليها ويستوطنوها وينشأوا عليها كيانا سياسيا خاصا بهم. يستخدم اليهود نفس المزاعم عن شرق الاردن بأنها ارض بلا شعب، فَلِمَ لا تكون ارضا للشعب الذي اصبح بلا ارض وهو الشعب الفلسطيني.
ولذلك سعى اليهود بكافة الوسائل الممكنة لترحيل الفلسطينيين من اراضيهم باتجاه الشرق ترجمة لهذه القناعة. ولم تتوقف ماكنتهم الدعائية العالمية والاقليمية والمحلية عن وصف المواطنين الذين يعيشون في شرق الاردن بأنهم مجرد اقلية من قبائل بدوية رُحل يجرى تجنيد بعضهم لحماية النظام ضد الغالبية من المهاجرين الفلسطينيين المتعلمين المتحضرين الذين يملكون التجارة والصناعة والتعليم والمهن ووظائف الحكومة التخصصية .
يتم تقليل شأن الشرق الاردنيين بشكل سفيه ومتعمد، ورفع شأن الفلسطينيين الذين كان الصهاينة يصفونهم بما اصبحوا يصفون به الشرق اردنيين، لتبرير هدفهم الخبيث وهو إحكام سيطرتهم على فلسطين كلها وطرد الفلسطينين الذين كانوا يوصفون بالبدو المتخلفين قبل قرن، والارهابيين حاليا.
من المؤكد أن اليهود الصهاينة لم يتخلوا عن مطامعهم في شرق الاردن، ولذلك فإن تجمع ملايين الفلسطينيين فيها وإنشاء دولة فلسطينية سيكون مخاطرة كبيرة على المدى الطويل لإنه سيقوض مطامعهم في الاستيلاء عليها وضمها لمشروعهم الصهيوني التوسعي.
لكن الدولة الصهيونية تتبع سياسة الخطوات المرحلية المتلاحقة في إنفاذ استراتيجيتها الرئيسية. فقد كان من الطبيعي ان لا يغامر اليهود بالاستيلاء على شرق الاردن في بداية نشأة دولتهم لأن ذلك يعني الانفتاح على حدود واسعة مع العربية السعودية والعراق وسوريا. حدود طويلة وصحاري واسعة يستحيل على عدد محدود من المهاجرين الصهاينة حمايتها وضبطها. ولأنهم بحاجة الى مخيم كبير مؤقت يستوعب الفلسطينيين المشردين.
اصبح المسرح الهائج المائج في الشرق الاوسط منذ احتلال العراق وتهشم معظم الدول العربية والذي ساهمت في صنعه اسرائيل بالطبع ملائما للتقدم خطوة أخرى لتحقيق حلمهم التاريخي، وقد عبرت صفقة القرن عن مضامين هذه الخطوة وغاياتها.
وعلى الرغم من كبر حجم المشروع الصهيوني وداعميه الدوليين والمتواطئين الاقليميين معه، فقد استمر الاردن يمثل العقبة الكأداء في وجهه. لقد سبق وأن احبط الجيش الاردني ولو الى حين محاولة استيلاء الصهاينة على كامل فلسطين حيث تمكن من منعهم من احتلال القدس الشرقية والضفة الغربية.
كما احبط الجيش والشعب الاردني المؤامرة الناصرية البعثية العراقية السورية العرفاتية لتصفية القضية الفلسطينية عام ١٩٧٠ لتحويل شعار لا سلطة فوق سلطة المقاومة الى حقيقة سياسية. فذلك الشعار لا يمكن تفسيره بغير اقامة دولة فلسطينية في الاردن. وهكذا وقف الاردن مرة ثانية سداً في وجه الاطماع الصهيونية التي تساندها الانظمة العربية التي تريد التخلص من عبء القضية الفلسطينية. فالانظمة العربية لم تتوقف مؤمراتها على فلسطين منذ عام ١٩٣٦ حين اقنعوا الفلسطينيين بانهاء العصيان المدني، وحين خدعت اذاعاتهم الفلسطينيين بالهجرة المؤقتة من فلسطين حتى تتمكن جيوشهم الهشة من طرد الصهاينة من فلسطين. والدليل ان جيوش تلك الانظمة لم تتمكن من الاحتفاظ بشبر واحد من اراضي فلسطين.
المرة الرابعة التي احبط فيها الشعب الاردني وجيشه مؤامرة الوطن البديل، أي الانقضاض على الامل الفلسطيني، كانت عندما خابت دسائس الفوضى الخلاقة وسماسرة الطوز العربي.
واخيرا، وليس اخرا، كان الاردن هو الصخرة التي تحطمت عليها مهزلة صفقة القرن العربية الترامبية.
عندما يهاجر أي انسان، فإن الموطن الجديد يصبح وطنه اذا شعر فيه بالامن والاستقرار، واذا وفر له الوطن الجديد الفرص التي يستحقها، وأتاح له الانتفاع منها بالجد والاجتهاد. عدم توفر هذه الشروط تجعل المهاجر يعيش حالة قلق مستمر، ويظل هاجس العودة يراوده حتى ولو كان كارها للعودة.
حالة القلق التي تنتاب المهاجرين ليست دائما سلبية، خاصة، في حالات الهجرة القسرية والهجرات السياسية.
راجت خلال السنوات الماضية مقولة اصحاب الحقوق المنقوصة، وكان من طرحها وروج لها سياسيون اردنيون من اصل فلسطيني تقلدوا اعلى المناصب واكثرها أهمية وحساسية في الحكومة الاردنية.
يستند المروجون لمظلمة الحقوق المنقوصة في شكواهم الى أن الشرق اردنيين يهيمنون على غالبية مقاعد مجلس النواب وكذلك المناصب الوزارية مع انهم اقلية سكانية. بل إن احد النواب المحسوبين على التيار الاسلامي استنكر تمثيل الجغرافيا والصحراء الاردنية على حساب التجمع السكاني للمهاجرين في مدينتي عمان والزرقاء. المتذمرون المشار اليهم لا يمثلون بالطبع الاردنيين من اصل فلسطيني. فقد انقطع حبل الود معهم منذ أن اصبح همهم الاول والاخير القفز على مقاعد السلطة دون أن يقدموا شيئا لتخفيف معاناة من يعيشون في المخيمات ومناطق الاكتظاظ السكاني في عمان الشرقية والرصيفة واحياء الزرقاء الفقيرة. لقد ادارت تلك الفئة ظهرها لمن تدافع عنهم الان، بل وكانوا سوطا جلدهم مرارا.
من وجهة نظر الشرق اردنيين فإن توزيع مقاعد مجلس النواب والحقائب الوزارية لا تستحق الاهمية التي يوليها لها محاموا الحقوق المنقوصة. الشرق اردنيين مستعدون للتنازل عنها عن طيب خاطر لاشقائهم ولن يخسروا شيئاً. فلقد اعطوهم ما هو اهم وهو الجنسية. فالمجلسان، النواب والوزراء لا يسمنان ولا يغنيان من جوع الا لمن يتناوب عليهما ولمحاسيبهم. ولا يعنيان شيئا لغالبية الاردنيين أكثر من التوسط لنيل ما كان يجب أن يحصلوا عليه بالقانون في دولة مؤسسات دون واسطة أو مقايضة بالاصوات.المجلسان يتشكلان بمعزل عن رغبة وتمثيل الاردنيين ويعملان ايضا بمعزل عنهم.
الاهم هنا، هو التأكيد على أن شعور القلق وربما شعور الغربة او الاغتراب الذي ينتاب الاردنيين من اصل فلسطيني مطلوب ومرغوب به وضروري، لان هذا القلق يظل مصدر قلق أكبر للصهاينة في فلسطين ويصيبهم بغصة في حلوقهم كلما حاولوا بلع وهضم جزء إضافي من الاراضي الفلسطينية والحقوق الفلسطينية، ويذكرهم بأن صفحات التاريخ الفلسطيني لم تطوى بعد. إن من مصلحة اسرائيل أن لا يشعر الفلسطينيون المهاجرون الى كافة ارجاء العالم بالقلق والغربة. مصلحة اسرائيل ان يطمئن الفلسطينيون المهاجرون حيث هم وينسوا فلسطين. وفي نفس الوقت فإن مؤسسات الحركة الصهيونية تشتغل باستمرار لاشعال القلق لدى يهود العالم حتى يقتنعوا بالهجرة الى فلسطين.
اذا كانت السياسات الحكومية الاردنية تتسبب في حالة من القلق للاردنيين من اصل فلسطيني، فهذا يعطيها شهادة بالوطنية والقومية والاخلاص المنفرد لقضية الفلسطينيين العادلة التي لم تتوقف مكاتب السمرسرة في المنطقة عن محاولة بيعها بأبخس الاثمان. أما الذين يروجون لأكذوبة الحقوق المنقوصة ويتاجرون بها، في العالم والاقليم وداخل الاردن فإنهم يثبتون أنهم وكلاء للحركة الصهيونية التي تريد حل القضية الفلسطينية على حساب الاردن. هؤلاء الوكلاء اختزلوا حقوق الشعب الفلسطيني في ارضه ومياهه وتاريخه وجغرافيته ومقدساته بالمنافسة على مقاعد في مجالس تنفيع تقوم على الشللية والمصالح الخاصة.
الهدف من هذا المقال هو التأكيد على الدور المحوري للاردنيين في الحفاظ على الحقوق الفلسطينية ومنع تصفية القضية الفلسطينية. لم يتجاوز الموقف العربي من القضية الفلسطينية مرحلة المشاعر. بينما كان الموقف الاردني منها موقف مصير مشترك. لقد أردت من هذا المقال التأكيد على أن الاردن ظل حريصا على أن تكون نتائج اللعبة مع الاشقاء الفلسطينيين "رابح رابح". بينما ارادها اخرون، صهاينة وعربا وسماسرة، أن تكون "رابح خاسر" وأن يكون الاردن هو الطرف الخاسر طبعاً. والله من وراء القصد. ربنا لا تآخذنا إن نسينا أو أخطأنا.