قلت في مقال سابق أن مئوية الدولة هي فرصة تاريخية لإجراء عملية مراجعة وتقييم وتقويم لمسيرتنا الوطنية, نعرف من خلالها مواطن الخلل فنعالجها ومواطن القوة فنعظمها, كما أشرت إلى واحد من أهم الأسس التي قامت عليها الدولة الحديثة, وهي المزاوجة بين علوم العصر وثقافتها الأصيلة, أما الأساس الثاني والمفصلي الذي سأتناوله في هذا المقال فهو أن الدولة الأردنية تغلبت على قلة إمكانياتها المادية, بثراء مواردها البشرية التي أحسنت إعدادها وتدريبها, ومن ثم توظيفها على أساس الكفاية ومعايير النزاهة, فقد آمن البناة الأوائل لهذه الدولة بأن الدول لا تبنى بالمكائد ولا تُدار بالمناكفة, لكنها تقوم بالكفايات المدربة والمؤهلة, وهي قاعدة لم يأخذ بها الكثير من المسؤولين في بلدنا في السنوات المتأخرة من تاريخ وطننا, عندما حلت المناكفة محل الكفاية, والشللية محل النزاهة, وخوف المسؤول على كرسيه محل الثقة بالنفس, لذلك بدأت إدارتنا العامة تفقد خِيرة كفاياتها فصرت ترى رجال في شرخ الشباب, وفي ذروة القدرة على العطاء يجلسون في بيوتهم محاليين على التقاعد, حتى وهم دون الستين "مع تحفظنا على قاعدة الستين" لا لشيء إلا لخوف المسؤولين من منافستهم على المقعد تارة, ومن باب المناكفة تارة أخرى, وهي ممارسة تفقد الدولة خِيرة الكفايات كما لمسنا في مواجهة جائحة كورونا, عندما أكتشفنا أن خيرة كوادرنا الصحية قد تم إبعادها من القطاع الصحي العام بشقيه المدني والعسكري فتلقفتهم دول الجوار وغيرها, وعندما جد الجد صار ظهرنا وصدرنا مكشوفين في مواجهة الجائحة, وما ينطبق على القطاع الصحي ينطبق على سائر قطاعات إدارتنا العامة.
إن هذه الممارسة فوق أنها تُفقد الدولة الاردنية خيرة الكفايات, فإنها تخلق طبقة من المعارضة الناقمة على الدولة, في مرحلة تاريخية نحن أشد ما نكون فيها حاجة إلى وحدة الصف, وتماسك جبهتنا الداخلية, لمواجهة التحديات والمخاطر الداخلية والخارجية, لذلك كله صار على حكومتنا أن تتخلص من ممارسة الشللية كي تعود دولتنا إلى مسارها الطبيعي وتستعيد قدرتها على الإنجاز والتطور .
إن إصلاح هذا الخلل يحتاج أن تعمل الدولة على إنزال الناس منازلهم، والناس هنا هم أهل الكفاية والقدرة من أصحاب الرأي والرؤية، خاصة في المواقع القيادية التي لا يقدر عليها الإمعات، ممن نزل الكثيرون منهم على هذه المواقع بمضلات الواسطة والمحسوبية والمحاصصة، فكان الحصاد هشيماً نعاني منه جميعاً.