لقد كان وصفي، جندياً منذوراً لأمته ووطنه، وكان أوفى الرجال، هكذا رثاه الحسين، الذي ما زالت دموعه الغالية، حاضرة في الأذهان، وهو ينعى رئيس وزرائه ووزير دفاعه -وما أدراك ما دموع الحسين طيب الله ثراه فدموع الملوك غالية وعزيزة
لقد جسَّد وصفي التل، النموذج الأردني، فكراً وسلوكاً ونهج حياة واستطاع أن يحافظ على أصالته والتصاقه بالأرض، مما يؤكد تميز الإنسان الأردني لقد كانت عبقرية وصفي، تكمن في ولائه المطلق للوطن، الذي رأى فيه الشهيد كما كل أحرار العرب الجذر الأساس، في توحيد الأمة بكاملها، وأحب ترابه، وتفانى في دفاعه عن قضايا أمته، وعلى رأسها قضية فلسطين، إن الحق دائماً باهظ التكاليف، ولا يلتزم به، إلا العظام من الرجال، ووصفي، واحد من هؤلاء العظام، واقرأ لعرار، شاعر الأردن، وهو يرثي بِكرَه وصفي، قبل استشهاده بثلاثة عقود (درب الحر يا وصفي كدربك غير مأمونة)
يأتينا موعد الثامن والعشرين من شهر تشرين من كل عام بذكرى الألم لاستشهاد ابن الوطن وصفي التل، فرحل الجسد، وبقيت الروح والأفكار مصدر استلهام لحاضرنا، فـ وصفي قد أسس مدرسة تعنى بالشؤون الوطنية، زرعت فينا معاني الانتماء والتضحية، وشكلت مصدر الهام لنا جميعاً حتى الحاضر ولمستقبل مشرق نتمناه، وهو المرجع الأول بمواقفه وتصرفاته المقترنة بأفعاله، لم يستخدم التنظير والتبرير، ولم يبتعد بقاربه الرئاسي عن الذين التحفوا بأقواله وأفعاله، ولم يخدر أمانينا لغد مجهول، وبالرغم من صغر سني عند وفاته، إلا أن الذكرى خالدة وتحتل مساحة بخلايا التفكير، فقد اقترنت بدمعة من والدي رحمه االله، الذي لم يبك أبداً، وعندما استفسرت عن سبب دموعه، أبلغني بعبارته الشهيرة «قتلوا وصفي»، عندها بدأت أستفهم عن وصفي وما سر الحب لهذا الشخص كعامل مشترك عند الجميع، لأدرك أنه أردني مخلص، وعربي قومي مؤتمن، هاجسه المحافظة على الوطن والنهوض به، وتحرير الأرض المقدسة، فلم يسلك سبل الاحتماء خلف جدران أو اشخاص، لم يلتحف بحب الذات، بل رجل ميدان يقدس العمل، فكان المؤسس والعراب للعديد من
المؤسسات الخالدة بتاريخ وطننا وأمثلتها قناة الغور الشرقية التي تولت نقل مياه نهر الأردن ونهر اليرموك لأغراض الشرب لساكني إقليم الوسط وري المشاريع الزراعية بمنطقة الاغوار الشمالية لتصنع منها منجم الأردن الغذائي والزراعي، الطريق الصحراوي الذي شكل العصب الرئيسي في ربط شمال الأردن ووسطه مع محافظات الجنوب وميناء العقبة، إنشاء شركتي الفوسفات والبوتاس لاستغلال ثروات البحر الميت الهائلة وتوسيع الساحل الأردني على خليج العقبة لمسافة ١٠٠ كيلو متر جنوباً، إنشاء مؤسسة الإذاعة والتلفزيون ومحطة الأقمار الصناعية، إنشاء جريدة الرأي لتكون حاملة للرسالة وتوثيق التاريخ، تأسيس الجامعة الأردنية كأول صرح علمي في الأردن وإنشاء مستشفى الجامعة الأردنية وتطوير مستشفى البشير، وكان اجتماعه الأسبوعي مع الشعب ليستمع للهموم والمطالب ويوصي بالحلول الفورية
وصفي التل، الذي ما زال جرحه، حاضراً في صدورنا، حيث امتدت له يد غادرة، مرتجفة رخوة، لتنال منه، ولتحاول النيل من عزم الأردنيين، الذين يقبضون على جمر الدفاع عن أمتهم، على المدى، ونسي الجبناء، أن الأردن محمي بسيف الكرامة وجيش الرسالة