.. ويهلّ آذار هذا العام، وفي اول اثنين الواقع في السابع منه، رُفِعت عن موائد المسيحيين اصناف اللحوم والألبان وغُيّب الزّفر. ودخل المتعبدون الصائمون أجواءً، فيها يؤدون فروضهم وطقوسا في الصلاة والتأمل والتوبة تمتلئ بالندامة والانسحاق.
عندما يبدا المسيحيون شوط صيامهم الممتدّ أربعين يوماً تكون عيون إيمانهم شاخصة إلى صاحب القيامة، وبعدها يبدأون اسبوعاً هو أعظم اسابيع السنة. فيه ترتسم احداث آلام مخلصهم وفاديهم السيد المسيح له المجد. ولأنّ القدس في وجدانهم، لا تمر لحظة دون ان يروا في آيات انجيلهم تفاصيل الجغرافيا والشخوص، ومخطط الفداء في مدينة الصلاة والسلام، إليها يصعدون برفقته من أريحا، ثم يقفون في العيزرية، نسبة لمواطنها لعازر، ليشهدوا إحياء هذا الميت بعد أربعة أيام. ويسيرون مع يسوع في موكب الدخول المهيب إلى مدينة الالام والقيامة، الآتي إليها باسم الرب في الأحد، الذي يسبق فصحهم رافعين شعانينهم في الأرجاء في مشهد طفوليّ ولا أبهج.
وسط هذه المشاهد الكتابية وما يتبعها، وفيما تتواصل مناجاة الصائمين لربّهم، وبالقرب من منتصف رحلة اربعينهم في هذا العام، استوقفتهم رؤية هلال رمضان معلنة بدء الشهر، ليتلاقوا بالروح والطاعة مع اخوتهم المسلمين في موسم يبتغون فيه وجه الله تعالى ومرضاته، ويدخلون بالشهر الكريم مع الأربعيني الكبير في اجواء حالة ولا اجمل، ليصبح فيها رمضان جزءاً من اشهر المسيحي وفيه يفرح لفرح المسلم الصائم.
اخي المسلم
من مضمار صومي الأربعيني وفيما أقترب من نهاية شوط للطاعة، يصبح سهلاً علي ان اطلّ على رمضان فأفهمه أكثر. فيه اقترب من صائميه مهنئاً. ومن وسط روحانية "الحبّ بوفرة" التي علّمها المسيح له المجد، ومن الكلمات السّماوية الآتية على لسانه "متى صمتم فلا تكونوا معبسين كالمرائين" وكمسيحي وقارئٍ لمعاني شهر تصومون لرؤيته، وبموهبة الايمان بالواحد الخالق سبحانه الذي يجمعنا، أقرأ ايضاً وأفهم تلك المهابة في وجوه الطائعين الفرحين بطاعتهم، وأُحبُّهم. وتعظم في عينيّ مكانة كل الأنقياء والاتقياء الذين يصيرون بالمحبة سبباً يضعني عند اول درب للفضائل، عند المحبة غير المشروطة. فيما أتذكّر ان سيدي يسوع المسيح علّمني ان الخروج على المحبة يُبعد ويَبعد عن جوهر دعوة السماء. فلستُ مسيحياً ان لم أحبّ.
في الصوم انا من جديد معك في وحدة. في الاكل او الإمساك. في الامتناع او الانقطاع عن الزّفر. وبغض النظر عن تفاصيل الصّوم وشكله. وجهتُنا الله وحده. إليه طاعتنا وحبّنا وعبادتنا. طريقي اليك ومعك يبقى سالكاً بالمحبة. بها وبها فقط نعبر معاً الى وجهتنا، الى الله.
والصوم برّ. والأتقياء يفرحون بكل أزمنة البر وألوانه ويرونها فسحة لرياضة الروح. إنه زمن يذكرنا ان نتقرّب معاً من الله تعالى، ونقتربَ من بعضنا البعض، ليصير هذا "الاوكازيون" المبارك موسماً لإزالة الحواجز، وتجمعنا تجليات الطاعة والتقوى، وفيه تلتمع في العيون والقلوب انوار تمجيد الله تعالى.
انا من داخل صومي شهدتُ الشّهر معكم، وانا صائم معكم، وإن دون تأدية.