نيروز الإخبارية : كان يوم جمعة في القاهرة يوماً عادياً يتكرر كل أسبوع، حيث الابن يغسل يديه في حضرة الأم، يتحضر لاستطعام طبيخها المصنوع بحب، يبدو مشتت الفكر قليلاً، ترنو إلى عينيه الداكنتين، خلفهما خزين من الحنو قد لا توحي به سحنته القوية النابضة بحضور زاخر، لكنها الأم وهي الوحيدة التي تعرف شيفرات الابن.. كان ذلك اليوم العائلي ليكون عادياً في القاهرة، لولا أن الابن هو الممثل رياض الخولي، والأم هي (ومن سواها) التي ستمنحه النصيحة التي ستغير وجه عالمه (وعالمنا) الدرامي إلى الأبد.
كان الخولي قد عاد للتو مع لقاء لم يرتب له سابقاً مع الكاتب والسيناريست وحيد حامد، الذي باغته بكرتين سددهما بشكل مفاجئ في مرماه. هو الذي قد تجاوز عقده الرابع من العمر، ورحلة امتدت منذ بداية الثمانينات، حقق خلالها نجاحاً نسبياً على المسرح وفي التلفزيون، إلا أنه لم يكن يرقى إلى حجم موهبته ولا إلى حجم طموحاته الفنية.
الكرتان كانتا على الشكل التالي: دور بطولة سينمائي في فيلم يعد اليوم أحد علامات السينما المصرية "طيور الظلام" (شريف عرفة، 1998) وأمام عملاق السينما المصرية والعربية عادل إمام.
وهو، فوق ذلك كله، دور ندّي، يظهر من خلال نواقص شخصيته وعيوبها فضائل شخصية البطل الرئيسي، كما يطرح سردية بالغة الدقة في زمن مصري وعربي متوتر: الفساد والإرهاب كونهما وجهين لعملة واحدة.
سيفصح الخولي في لقاء صحافي بعد سنوات طويلة عن سبب تردده آنذاك في قبول الدور: "شخصية تتحدث العربية الفصحى طوال الوقت وندية لعادل إمام محبوب الجماهير. شعرت بالقلق، قلت: ربما تكون بداية رائعة في السينما لكن الخطر أن تكون بداية ونهاية.. في آن".
في يوم الجمعة ذلك من العام 1998، لم ينجح وحيد حامد في إقناع الخولي، على الفور، الذي ظل متشككاً، لكن أمه هي من، بقلب دليل لا يخطئ، أسرت في أذنه بأن عليه أن يقبل هذا الدور لأنه سيكون "فاتحة الخير"!
لم تتأخر النبوءة لكي تشهر بشائرها.. فقد افتتح رياض الخولي بعد سنتين، الألفية الجديدة، حاملاً معه إرث أدوار تسعينيات مؤثرة مثل دور الزعيم عبد الناصر في "أم كلثوم" (إنعام محمد علي، 1999) واستعادات تلفزيونية ناجحة لأفلام سينمائية كلاسيكية، كما في "اللص والكلاب" (أحمد خضر، 1998) و"رد قلبي" (أحمد توفيق، 1998).. لكنه افتتحها بأدوار حصدت نجاحات جماهيرية باهرة؛ إذ كان عاشقاً لا يتخلى عن ثقل رجولته في "الفرار من الحب" (مجدي أبو عميرة، 2000) ليكمل لوعة العشق، هذه المرة في بدن قوي لرجل يقتل من أجل الحب مسيراً من الحبيبة: عبد العال في استعادة درامية حققت نجاحاً ساحقاً لقصة "ريا وسكينة" (جمال عبد الحميد، 2005). هنا، وخطوط "البوظة" (شراب خمور شعبي وتاريخي) سيرثي حاله، مؤدياً مشهداً معقداً، يتأرجح بين القوة والضعف، الأسى والأمل، الحب والكره، بين ثانية وأخرى، بسرعة رمش العين. وهنا أيضاً ستسطع بشكل لافت إحدى أدوات الخولي التمثيلية التي تبرز قوة تلبسه للشخصية: الصوت.
بوسع رياض الخولي أن يتلاعب بطبقات صوته (مستفيداً من تدريب مسرحي وخبرة لافتين في بداية مسيرته) جاعلاً من الأنفاس وإيقاعها لغة درامية خاصة بذاتها تضيف إلى أداء الكلام وملامح الوجه.
بخلاف ما قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، فإن كتلة الخولي الجسدية، الحاضرة بقوة، ليست المورد الأول لتلك الكاريزما التي تبهر المشاهد على الشاشة وإنما قدرة مدربة على التلاعب بنبرات الصوت وتوظيف ذلك درامياً، إضافة إلى انفعالات وجه تتشكل بدقة وتتبدل بسرعة بين القسوة والمحبة، الجبروت والتعاطف، سطوة "ولي الأمر" و"كبير الحارة" و"البطل الشعبي" وفي الوقت ذاته "الأب الرحيم" و"الرجل العاشق" وقناع القوي الذي يخفي هشاشة كبيرة.
يبدو في ذلك أقرب إلى النزق الشكسبيري، مجسداً روح شخصيات الأدب الروسي التي يحبها ويتحدث عنها في مجالسه مطالباً بتمصير المزيد من رواياتها للشاشة. في إمكاناته التمثيلية تلك، التي تصقلها الأيام وخبرات السنين، يذكر صاحب "سلسال الدم" و"حدائق الشيطان" و"الفتوة"، بموهبة عملاق كبير هو محمود المليجي، كما محمود ياسين في آخر أدواره الدرامية في مرحلة عمرية متقدمة.
تلك الأدوات، مع نص وإخراج متماسكين، مكنته من أن يقفز خلال شهور قليلة من وهج رياض أبو الذهب في "أيام" (محمد أسامة، 2021) بجزئيه إلى فيض كبير من الموهبة تحت السماء المرعبة لـ"بحيرة غمام" (حسين المنباوي، 2022) في شخصية "العجمي" حاكم الجزيرة و"ولي أمر" ناسها.
وهو يقترب من السبعين، يحظى رياض الخولي بنجوميته واسمه الأول على "تيترات" الأعمال الفنية، كما بإشادات الجمهور ونقاد الأعمال، في سيرة بطولات مطلقة انتزعها منذ عشرين سنة.. لكن القادم يشي بأنه يقترب من المرحلة الثالثة لتوهج ممثل ذي حضور طاغ على الشاشة وإنسان عامر قلبه بالحب. حب كذلك الذي تزرعه الأمهات العارفات في قلوب أبنائهن فيمضون.. بنجاح!