يعتبر الأستاذ الدكتور أحمد الحراحشة - أستاذ الأدب القديم في جامعة آل البيت - رائدًا للمنهج العقلي التأويلي، حيث يقوم هذا المنهج على تفسير النصوص الشعرية والنثرية وَفْق التأويل العقلي، فما هو موافق للعقل نأخذ به، وما يخالف العقل نرفضه، حيث شرح الشعر الجاهلي شرحًا مغايرًا لِما جاء به القدماء، أمثال: الزوزني، والأنباري، وغيرهم.
والحراحشة مِن أوائل مَن قام بشرح الشعر الجاهلي على هذا المنهج بتميّز، وهو لا ينكر جهود القدماء في شروحاتهم، بل يقدّر هذا ويثني على جهودهم، لكن ما دام الإنسان صاحب عقل ويفكّر كما فكّر هؤلاء الشّراح، والتأويل ليس حكرًا على أحد، فلماذا يحرم الإنسان نفسه من لذّة التأويل والتفسير؟!
ونُشر كتاب للحراحشة سنة ٢٠١٩ الصادر عن عالم الكتب الحديث في إربد تحت مسمّى "معلقات العرب في ضوء المنهج العقلي التأويلي"، حيث تضمّن الكتاب معلقات العرب السبع، بالإضافة إلى بعض القصائد المشهورة.
من الأدلّة التي استند عليها في مشروعية التأويل في كل مجالات الحياة، قوله في كتابه الصادر عن عالم الكتب الحديث: "أوّل ابن عباس الآية الكريمة: "أنزلَ مِن السماءِ ماءً فَسَالَتْ أودِيَةٌ بِقَدَرِهَا" [سورة الرعد: ١٧]، فقال ابن عباس في تفسيرها: الماء هو القرآن، والأدوية قلوب العباد، تأويلًا عقليًا ممّا عُلّم، داخلًا في باب الحَدس والتنجيم من غير مرجحات. فإذا كان التأويل مباحًا في نصّ مُحكَم لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه، فلماذا نحرم شعرنا القديم التأويل، ونغلق باب الاجتهاد في البحث عن المعاني العميقة للشعر الجاهلي".
وممّا جاء في كتابه في تأويل معلقات العرب - مثلًا - معلقة زهير بن أبي سُلمى التي مطلعها:
أَمِن أُمِّ أَوفى دِمنَةٌ لَم تَكَلَّمِ
بِحَومانَةِ الدُرّاجِ فَالمُتَثَلَّمِ
التي قيلت في الصلح الذي أُبرم بين قبيلتي عبس وذبيان - بين جمع غفير من حكماء القبيلتين ومنهم الشاعر الحكيم زهير بن أبي سُلمى - على إثر حرب داحس والغبراء، فالشّراح القدماء قالوا: "إنّ أم أوفى هي محبوبة للشاعر قبل خمسين عامًا"، فيردّ عليهم الحراحشة في تأويله ويقول: "كيف لشاعر حكيم كزهير بن أبي سُلمى أن يذكر محبوبة له قبل خمسين عامًا في موقف كهذا لحقن الدماء بين العرب! وهل يسمحون له حكماء القوم وعقلائهم هذا الأمر؟! فالموقف ليس موقف تشبيب وعشق، والمقام لا يسمح بذلك".
وإنما أراد زهير الشاعر - وَفق تأويل الحراحشة - بأم أوفى أرض القبيلتين (عبس وذبيان) فكنّى عن أراضيهم بـ"أم أوفى" دلالة على الوفاء والمحبة والألفة التي كانت بينهم قبل الحرب، فالشاعر يتعجّب من تغيّر هذه الأرض بعدما كانت أرضًا للوفاء والمحبة، ومن ثم أصبحت أرضًا تكثر فيها الدماء وتثليم الخيل.
الكتاب يتضمّن شروحات كثيرة، ويكشف تاريخ العرب المُشرِّف، والحقيقة التي غابت عن كثير من الناس جرّاء الشروحات القديمة للشعر الجاهلي، فالحراحشة قامة علميّة كبيرة نفتخر بها، نسأل الله لها التوفيق والسداد.