تتكاثر في بلدنا الاجتهادات والطروحات, مثلما تتكاثر المبادرات والمؤتمرات, ولأن الهوية الفكرية لمجتمعنا جرى تغيبها, لذلك لم يعد لدينا مرجعية قياسية نحتكم إليها لمعرفة أي الاجتهادات والطروحات والمبادرات أنسب لنا, لذلك اضطربت الأولويات وصار كل يغني على ليلاه, فصارت حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية أقرب ماتكون إلى سيرك أو "هايد بارك" .
لقد طرحنا أكثر من مرة سؤال الأولويات الوطنية وقلنا أن الإجابة على هذا السؤال يحتاج الاصغاء إلى اهل التجربة والخبرة في شتى المجالات في مجتمعنا ، ومن مختلف الاتجاهات، انطلاقا من الإيمان بالقاعدة التي تقول بأنه لا احد يمتلك الحقيقة وحده، وانه لابد ان تكون هناك بوتقة تلتقي فيها الرؤى المختلفة والتجارب المتنوعة، لتنصهر جميعها في برنامج وطني موحد، تلتقي حوله غالبية الناس، ذلك ان الإجماع في مثل هذه القضايا مستحيل مما يستدعي أن تنصت الأقلية إلى صوت الأغلبية، وهنا نكرر ماسبق وأن كتبناه من أن التحديد السليم للاولويات لابد من ان ينبثق من خلال تلمس حاجات الناس الحقيقية للانطلاق منها، وفي اطار السياق التاريخي والجغرافي والتجربة الحضارية لمجتمعنا، بعد ان ثبت بالتجربة العملية والدليل المادي الملموس فشل كل محاولات الاصلاح والتغيير التي جرت وتجري من خلال استيراد وصفات لهذا الاصلاح من تجارب الاخرين، وهي تجارب تختلف بالضرورة عن تجربة مجتمعنا وسياقها التاريخي والجغرافي، فمن المعلوم ان للتاريخ أثره في تشكيل، عقلية ونفسية واتجاهات الشعوب. مثلما ان للجغرافيا ومناخاتها الطبيعية تأثيرا واضحا في هذا التشكيل، وهي اختلافات يلحظها علماء الاجتماع بوضوح، على ان ذلك لا يعني ان لا نسترشد بتجارب المجتمعات الاخرى استرشادا لنأخذ من هذه التجارب ما يفيد في تقوية تجربتنا الذاتية، مع الحفاظ على هويتنا الحضارية بعد ان عانينا طويلا من اخفاقات الوصفات المترجمة التي جرت محاولات لإنزالها على واقعنا عنوة، دون مراعاة للخصوصيات الوطنية من جهة، ودون بذل جهد لتحديد الأولويات التي يريدها الناس من خلال الحوار معهم، لا من خلال الفرض عليهم، ولعل هذا هو سر اخفاقنا حتى الان في تحديد اولوياتنا الوطنية في مختلف المجالات، وسر التبدل الدائم لهذه الاولويات، خاصة مع تبدل الحكومات السريع في بلادنا، وهو خلل يلمس أثره كل الأردنيين وكما قلنا سابقاً نقول الآن أنه لابد من السعي لصياغة الاولويات الوطنية في اطار استراتيجية وطنية عابرة للحكومات، محمية بارادة شعبية، لتشكيل رقابة على الأداء بهدف تحقيق المصالح الوطنية وحمايتها.
إن تحديد الأولويات الوطنية يستدعي ترسيخ مفاهيم اساسية في مجال العمل العامـ أهمها: ترسيخ مفهوم التفكيري الجماعي في اطار التنوع والتعدد الذي تجمعه القواسم المشتركة والتعاون على ما نتفق عليه بعيدا عن الشللية، وثانيها ترسيخ مفهوم المشاركة المبنى على الحرية، كشرط اساسي لبناء المجتمع التعددي الديمقراطي الذي نسعى اليه والذي يحدد اولوياته بحرية مطلقة، بناء على حاجاته الاساسية التي يحددها هو، والتي لا تفرض عليه فرضا، وهذا هو اساس وسبيل نجاح اية خطة للنهوض بالمجتمع، الذي هو هدف نسعى جميعا الى تحقيقه.