بيوت عامرة بطراز حديث، وبناء يحاكي التطور العمراني الذي طال جميع الزوايا، إلا أن هناك من لا يتوانى عن البحث عن قطع تراثية قديمة تزين تلك الزوايا، وتبقى تذكر بماضٍ جميل، وبيت أجداد احتوى الجميع يوماً ما، وباتت اليوم محتوياته ذات قيمة معنوية تذكارية.
وفي بيته الجميل المتواضع، وضع أمجد عبد بضع قطع يراها فنية بعينه، بينما يشاهدها أبناؤه على أنها "خردة قديمة” طال بعضها الصدأ، إلا أنه يجتهد في حديثه معهم بأنها كنوز لها ذكريات تلامس قلبه، كما في المصابيح القديمة التي كانت تنير بيتهم في عتمة الليل ببضع قطرات من الكاز.
ويقول أمجد "هذا الزمن جميل، زمن الأجداد والآباء بقليله الدائم.. نشتاق إلى تلك الحياة البسيطة، التي بتنا نبحث عن بعض مقتنياتها في البيوت وحتى في محال الخردوات أحياناً”.
بُسط مصنوعة يدوياً على النول، الجاعد المصنوع من صوف الخروف، كان يوماً ما محط دفء في ليالي الشتاء الباردة، أو ربما طبق من القش، احتوى أكواماً من أرغفة الخبز الساخنة التي خرجت من تحت أيدي الأمهات، ومجموعة أخرى من أكواب القهوة و(دلالها) النحاسية، ومنهم من خبأ في مكانٍ ما، "منجل القمح” الذي يذكر بأيام الخير، وهناك من احتفظ بمفتاح (العقد) الكبير الذي ضم بين جدرانه عائلات ممتدة كثيرة، والكثير من التراثيات الأخرى.
وفي غرفة الضيوف الخاصة في بيت أم أحمد أبو عبود، توجد زاوية مفعمة بالذكريات ورائحة البيوت القديمة، ما تزال إلى الآن تجمع فيها الكثير من مقتنيات الأهل القديمة، وترى أنها هي ما صنعت الفخامة في هذه الغرفة، وتعمل بشكل يومي على ترتيبها وتنظيفها لتبقى محافظة على رونقها وجمالها و”هيبتها في المجلس”.
وتقول أم أحمد إنها ورثت عددا من تلك المقتنيات من والدتها وجدتها، أي أن منها ما يزيد عمره على 100 عام وأكثر، كما في "صندوق العروس الخشبي، مطرزات، أثواب، نحاسيات، وغيرها الكثير من المحتويات التراثية الجميلة”.
ووفق أم أحمد، فإنها ترى في تلك الموجودات قيمة كبيرة تتجاوز جمالية المكان، فهي تحكي قصص أيام وسنوات للعائلات التي استخدمت تلك الأشياء التراثية الجميلة، والآن لم يعد لها أي حاجة أو استخدام فعلي، ولكن يبحث عنها الكثيرون لغايات التعلق بالماضي، وبدفء العائلة، عدا عن أنها باتت اليوم تباع بأسعار مرتفعة إن وجدت، بالرغم من أن كثيرين يفضلون الاحتفاظ بها في بيوتهم على بيعها حتى بأغلى الأثمان، فهي لا تقدر بثمن، على حد تعبيرها.
وتتعمد بعض العائلات تصميم غرفة كاملة بطراز عربي تراثي قديم، كما في تفصيل غرفة جلوس عربية (أرضية)، ووضع بعض البُسط فيها، وفرشها بسجاد قديم، ووضع (الجاعد) الصوفي على الفراش، ومن ثم تزيينها ببعض التراثيات، مثل (مهباش القهوة الخشبي)، وفناجين القهوة، والإضاءة القديمة الخافتة التي تذكر بأجواء البيوت الجميلة القديمة.
أحمد الأخرس أحد المهتمين بتجميع كل ما هو قديم ويحمل في طياته ذكريات وحنينا، كان قد تحدث لـ”الغد” عن وجود أعداد كبيرة من الأشخاص الذين يزورون متحفه الخاص الذي يضم التراثيات والمقتنيات القديمة، مشيراً إلى أن هناك من يزوره بدافع الاطلاع، ومنهم من يطلب منه شراء بعضها حتى وإن كان بسعر مرتفع نوعاً ما.
ومن خلال زيارات عشاق كل ما هو قديم وتراثي، يقول الأخرس، إنه لاحظ مدى تعلق الناس بالماضي بكل تفاصيله، وإنه خلال نشر صور ومقاطع فيديو خاصة بعرض مقتنيات قديمة، يلمس مدى تفاعل الجميع والتغني بالماضي الجميل وذكريات الأهل والأجداد.
تتحدث المتخصصة بالتراث الأردني والأزياء التراثية ثائرة عربيات، التي تحرص على المحافظة على مختلف أشكال التراث الأردني، سواء من ناحية الملابس أو مقتنيات البيوت، عن مدى أهمية المحافظة على تلك التفاصيل الجميلة في البيوت من مقتنيات الأهل والأجداد، حتى وإن لم نكن نستخدمها في حياتنا اليومية، فهي دلالة على الفخر بالماضي وبتراث وإرث الأهل الذي يحكي قصة أعوام وعقود طويلة.
ووفق عربيات، فإن اقتناء الأدوات التراثية والشعبية يعد حماية لها من الاندثار، خاصة في ظل وجود تحديثات كثيرة في مختلف مناحي الحياة، التي تستهوي الأجيال المعاصرة؛ حيث أصبحت الفجوة بينهم وبين الموروث غير المادي كبيرة جداً، وهذا دفع بعض الأشخاص الذين لا يعلمون مدى قيمة تلك الأدوات إلى التخلص منها بطرق مختلفة قد يصل بعضها إلى "النفايات”.
ولكن رغبة آخرين بالعودة إلى تملك بعض المحتويات، والإيمان بأن لها تاريخا مرتبطا بالإرث والعادات الجميلة التي تربى على تفاصيلها أجيال متتالية، جعلت هذه الأدوات ومقتنيات المنازل تحمل قيمة معنوية كبيرة، وبالتالي البحث عنها والمحافظة على اقتنائها مهما كان ثمنها، بل وأصبحت تضيف للمكان جمالاً وأناقة.
وأشارت عربيات إلى أن هناك الكثير ممن يخصصون غرفة كاملة ويطلقون عليها اسم "المضافة” كما كانت في السابق، وتكون جميع محتوياتها من التراث بكل تفاصيلها، وعادةً ما تكون الزاوية المفضلة في المنزل.
وهذا الأمر، كما ترى عربيات، لاحظته من خلال تعاملها في محلها الخاص بالتراثيات وبخاصة الأزياء، من خلال الشغف الذي يظهر لدى زوارها ولهفة للحصول على أي شيء يرتبط بالماضي، لاقتناء تلك القطع والاحتفاظ بها في منازلهم، وجميعهم يشعرون بالحنين وتعيدهم لأيام جميلة مضت، وما عاد لتلك الأدوات أي استخدام سوى أنها حافظة للذكريات، ولمسات الأهل والأجداد عالقة بها. تغريد السعايدة " الغد "