إنها قصة أشواق.. تلك الفتاة التي اشتاقت أمها أن تراها عندما تكونت داخلها، واجتاحتها الأشواق لرؤيتها ومواكبة مراحل حياتها التي لم تعرف يوما سوى العذاب والإذلال .. إنها رواية نورة المطيري لأشواق تراقصت على زجاج مكسور لمرآة حياة أم وابنتها كتب على جبينهما مقارعة ظلم الناس وتلقي صفعات الأقدار.
تغوص الكاتبة السعودية نورة المطيري بين طيات باكورة أعمالها في دهاليز عالم التسول واستغلال براءة الأطفال من قبل عصابات الاتجار بالأطفال، لتنطلق عبر سجيتها السردية إلى داخل أعماق النفس البشرية وما يعتريها من صراعات بين الخير والشر، بين الحرية والعبودية، بين العدل والظلم. فتعزف بكلماتها معزوفة الحب في زمن الضياع وصراع الطبقات، فتتراقص وتتمايل بطلة روايتها على أنغام عذابات الحياة وهمسات الضياع ووشوشات الحب.
تهمس الروائية المطيري بين ثنايا روايتها "على زجاج مكسور رقصت حياتي"، بهمسات لمعزوفة دراما الحب في قالب اجتماعي يسلط الضوء على معاناة أطفال الشوارع وعاملات المنازل وما يتعرضن له من إذلال وإهانات، لتخرج منها ببراعتها السردية بقصة حب مستحيلة لبطلة روايتها مع مخدومها وما يعتري حياتها من مطبات ومعاناة.
على نقيض المعتاد في الروايات الاجتماعية الدرامية، نجحت في تقسيم روايتها إلى جزأين دون حد فاصل ظاهر بينهما، وجعلت لكل جزء بطلا رئيسا، مكرسة للعنصر الأنثوي البطولة المطلقة، وجاعلة رابطا أسريا بينهما، بين أم وابنتها، ولكل منهما حقبته الزمنية ضمن أحداث روايتها.
تنطلق أحداث الرواية على لسان "أشواق" وهي تروي تفاصيل حكايتها وحكاية أمها "سما" التي كانت ضحية الاتجار بالأطفال، وإجبارها على التسول ومن ثم الخدمة في المنازل، وما تبع ذلك من أحداث أدت إلى غيابها عن الساحة، وسطوع نجم ابنتها "أشواق" وصراعها المماثل إلى حد كبير صراع أمها مع الحياة والمجتمع.
تتمحور سرديات الرواية حول عالم البؤس الذي يكون الأمل فيه منقذا وباعثا للأمل الذي دفع البطلة للتأمل دائما أن يأتي بطلها لينقذها، لكن سرعان ما تتبعثر مشاعرها عندما تكتشف أن العصابات يسهل الإيقاع بها، إلا أنها دائما ما تجد مخرجا لها من الورطة نتيجة الشبكة المتينة التي حاكها أعضاؤها مع مسؤول فاسد باع ضميره لشرير ما وخان قسمه، فتعود إلى واقعها المرير، وتجد أن حالها لن تتغير وحظها العاثر يأبى أن يتركها وشأنها، وتدرك الحقيقة المرة أن سوء الطالع الأسود سيلاحقها كظلها أينما وطئت قدماها.
وقد برعت الكاتبة في تجسيد الحالات النفسية التي تعيشها البطلة، جاعلة من حيطان المنازل شهودا على انكسارات ومسلسل خيبات "سما" التي انهالت على رأسها من قبل سكان تلك المنازل الذين قابلوها بالسخرية والاستهزاء وتجنب الاقتراب منها لاعتبارهم إياها مجرد آفة يحق لهم منح روحها مزيدا من الأذى لاختبار قدرتها على الاحتمال والاستمرار في تلقي صفعات الإهانة وسيل الإذلال وامتهان إنسانيتها، ما جعلها على يقين أن حياتها عبارة عن حرمان، مقتنعة أن الأمور التي نكون مغيبين عنها ولم نذق طعم التمتع بها، عندما نعرفها نكون قد ارتكبنا جريمة نكراء في حق أنفسنا.
وفي عز معركتها في مواجهة مستعبديها، ما برحت أفكار الهروب تحلق فوق رأس "سما"، ومع ذلك لم تجد فكرة تمنحها السبيل لإنقاذ نفسها من العبودية التي تتلبسها، فخارج أسوار مخدع مستعبدها تمتد طرق المدينة التي إن طالت وتفرعت ستؤدي في النهاية بها إليه، لذلك لم تجد أمامها سبيلا سوى الغوص في بحار التمنيات أن تمتلك أجنحة لتطير وتعلو وتخترق تلك الأسوار، لكن تعود لتصطدم بواقع أنها "لم تخلق لتطير".
أحبت "سما" أنوثتها المغيبة عنها، فزارها الحب، فاستقبلته، فارتكبت خطيئتها التي ستستمر في دفع ثمنها طيلة حياتها، ولن تدرك أن لا شيء بالمجان وأن لكل شيء ثمنا حتى للحب أثمان تثقل كاهل المحب بغض النظر إن كان غنيا أم فقيرا. فهل تعثرت لأنها أرادت أن تحب؟ أم أنها أحبت فأغمضت عينيها ووقعت وغرقت في وحول حب غير متكافئ ومتوازن؟ هل مصيبتها أن أغمضت عينيها وأعمى الحب بصرها ولم تشاهد حبيبها على حقيقته، بل رأته كما أرادته وابتكرته مخيلتها فوقعت في شر أحلام اليقظة؟ أم أنها أحبته لأنه لم يكن أحد غيره أمام عينيها فانجرفت وراء مشاعر اخترعتها إرضاء لرغبة مراهقة فاقدة البوصلة؟ أم أنها أصلا لم تحبه وإنما أحبت حياة الرفاهية في ذلك المنزل فلم تجد غيره ضمانة بقائها هناك وعدم عودتها إلى إشارات المرور والتسول من جديد، فكان "أسامة" القشة التي ستنقذها من الغرق، ويبدو أن كثيرا من "لماذا" و"هل" تكرس جواب "لا أعلم" وتبقى الحقيقة في كنه المستقبل وما تخبئه الأيام.
أمضت "سما" حياتها تأخذ ولا تعطي، فوجدت في حاجة أسامة إلى كليتها فرصتها الوحيدة في تغيير معادلة الأخذ والعطاء المجحفة في حقها، وأن تطلب لأول مرة مقابلا لما تعطي، كيف لا وذلك المقابل هو تحقيق حلم اليقظة الذي طالما داعب مخيلتها ولم يفارق ليلها ونهارها وهو الزواج من فارس أحلامها، وإن كان من نسيج مخيلتها التي أبدعته وجعلته حبا من طرف واحد، ومستميتة في الدفاع عنه وإن كان عبثا وبلا أمل، فكيف لخادمة أن تتجرأ وتحلم بالزواج من مخدومها؟ فما كان من نتيجة لذلك الحلم الممنوع سوى تخليها عن ملجأ أوجدته لتتنفس الحياة، فخنقت روحها بمشاعر صنعتها ولا تعرف حقا حقيقتها.
لم تتحمل "سما" الضرب والشتم والإهانات من أجل الحب، بل لأنها تربت على إذلال نفسها، فمن شب على شيء شاب عليه. لكن بطبيعة الحال، لكل أمر في الحياة حد تقف عنده، فجاء اليوم الذي طفح الكيل بـ"سما"، وكان الانفصال والطلاق بداية حياة جديدة لها لم تكتمل، وخرجت من ذلك المنزل الحلم خاوية الوفاض إلا من طفل بدأ يتكون داخل أحشائها. إلا أن الأقدار تعشق المضطهدين دوما، فبعد سلسلة من الخيبات، كان السجن ومن ثم مغادرة البلاد وعودتها إلى وطنها الذي غادرته في عمر السابعة مصيرها المنتظر، تاركة خلفها ابنتها "أشواق" في عهدة امرأة أخرى، لتبدأ بعدها مسيرة "أشواق" في مواجهة الأقدار ومسلسل الخيبات المتلاحقة، التي أوصلتها إلى منزل والدها لتعيش فيه فترة منبوذة مكروهة من سكانه. وكان القدر دائما لها بالمرصاد، فأبى أن يتركها دون أن ينخر الضعف وعدم القدرة على الحركة جراء حادث سير تتعرض له وتخسر فيه إخوتها، ولم يبق لها في الحياة سوى والدها الذي لم يحبها أصلا يوما.
ظنت "أشواق" أن الحياة الزوجية ستحمل لها الخلاص لها من سلسلة الخيبات، إلا أن مجددا خاب أملها، وكان نصيبها منه، نصيب أمها نفسه من ضرب وإهانات، وصولا إلى الطلاق والعودة إلى منزل والدها.
لم تشأ الكاتبة نورة المطيري أن تنهي عذابات بطلة روايتها عند هذا الحد، بل لجأت إلى براعتها الروائية لتشكيل صدمة إيجابية عند القارئ، رافعة منسوب العقدة في قصتها موضحة سبب نفور والد "أشواق" من ابنته، وهذا ما يتضح في الصفحة قبل الأخيرة من الرواية.
قدمت الكاتبة روايتها بصيغة سردية حوارية تكاد تكون إقرب إلى "سكريبت "لمسلسل درامي" أو فيلم سينمائي جاهز للتصوير والإنتاج بعد تطوير بسيط للسيناريو والحوار فيها. ونجحت الكاتبة في تحريك أحاسيس القارئ وتجعله يقف مذهولا أمام كل عقدة وحل تواجه بطلتي روايتها، جاعلة من همسات "سما" أصداء تضج في الأرجاء، وهي تتمنى ألا يأتي اليوم الذي تلعنها فيه ابنتها لأنها أورثتها قساوة الحياة التي لاحقتها بعض آثارها، مطالبة منها أن تتذكر عندما تلعنها أن وجودها أفضل من عدمه، فهل ستفعل "أشواق" ذلك؟ يبقى هذا يتراقص بين طيات صفحات رواية "على زجاج مكسور رقصت حياتي".