انطلقت في موسكو، يوم الخميس الماضي، أعمال منتدى "فالدأي" الدولي للحوار، لبحث القضايا الساخنة في العالم وعلى رأسها الحرب الأوكرانية التي تواجه فيها روسيا الاتحادية المشروع الغربي الليبرالي على كافة الصعد، وذلك بحضور مسؤولين وخبراء بارزين من داخل روسيا الاتحادية وخارجها. والمنتدى بحد ذاته من المنابر التي يتصل من خلالها بوتين مع قادة الرأي والمفكرين علي صعيدين داخلي وعالمي. وقد درج على المشاركة في افتتاحية المنتدى بكلمة جامعة تعكس عمق ثقافة بوتين الذي تباهى بأنه ابن الطبقة الكادحة وأن والديه عاملان.
وأبدى بوتين ذلك الخطيب المفوه والمحاور البارع وصاحب الكاريزما الاستثنائية، قدرَتَه على الاستحواذ الجماهيري من خلال طرحه للقضايا التي تمس العالم.. بالإضافة إلى الخيارات والسبل المتاحة لتجاوزها والانتقال بالمنطقة إلى مرحلة أكثر أمناً واستقراراً.
إذْ شدد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في كلمته أمام منتدى "فالداي" على أن الأزمة الحالية تطال الجميع وأن البشرية أمام طريقين، مشيرا إلى أن العالم يتجه إلى مسار متعدد الأقطاب.
وشملت كلمة بوتين في جلسة يوم الخميس العامة للمنتدى مختلف القضايا السياسية والاقتصادية الملحة التي يواجهها العالم، منوهاً إلى أن الموقف في العالم يتجه نحو السيناريو الأسوأ.. واتهم الغرب بإشعال الحرب في أوكرانيا وارتكاب عدد من الأخطاء المنهجية، ولعل أهمها ذلك التجاهل الغربي لمصالح الدول الأخرى وقيمها وثقافاتها.. أي أن الغرب يسعى لكي ينصاع له الجميع.
وفي نظر بوتين ما دامت الأزمة تطال الجميع الآن، وليس هناك أي أوهام في هذا الشأن؛ فأمام البشرية طريقان: إما المضي قدما نحو الانهيار، أو العمل على نظام جديد معاً موحياً بذلك إلى الدور الروسي الذي تبنى مواجهة المشروع الغربي بكل السبل المتاحة وفي كافة الأصعدة.
ولم ينس بوتين الإشارة إلى الإهمال الأممي للبيئة التي تعيش أسوأ احوالها هذه الأيام العصيبة، مؤكداً على أن الأحداث الجارية دفعت بالقضايا البيئية إلى المشهد الخلفي، في الوقت الذي لم تختف فيه هذه التهديدات الأساسية، وما زال اختلال التوازن البيئي يمثل تحدياً للجميع.
وفي كلمته حذر بوتين الغرب في أن من يزرع الريح يحصد الزوبعة.
وإن الغرب يفرط في ثقته بالعصمة عن الأخطاء ما دعاه إلى إلغاء وتدمير المعارضين وفي خطوة واحدة.
واستشهد بوتين بما قاله الفيلسوف الروسي ألكسندر زينوفييف منذ عشرين عاماً -وهو أحد رموز الفكر الفلسفي الجديد في الاتحاد السوفيتي- في إن ما يحتاجه الغرب للحياة هو أن يكون كوكب الأرض وجميع موارد البشر تحت إمرته.
وإمعاناً منه في نقد السلوك الإستعلائي للغرب وعلى رأس ذلك أمريكا، أيضاً وفي سياق كلمته استنكر بوتين كيفية اغتيال القائد الإيراني قاسم سليماني من قبل الغرب.، على أراضي دولة ثالثة.
أما بالنسبة للديمقراطية فقد نوه بوتين إلى أن الغالبية العظمى من الدول تطالب الآن بالديمقراطية في الشؤون الدولية، ولا تقبل الإملاءات المفروضة على الدول من قبل الغرب.
ويحاول بوتين في كلمته التحدث عن الأديان باحترام كسبه من أستاذه الفيلسوف الكسندر دوغين الذي أورثه الإيمان الراسخ بمفهوم روسيا الجديدة من خلال "استرجاع الأمة الروسية الكبرى قوتها بالعودة إلى قيمها المحافظة "لذلك قال بوتين : "لدينا مناطق في روسيا يحتفلون فيها بجميع المناسبات الخاصة ذات الديانات المختلفة: الإسلام والمسيحية والبوذية واليهودية.
وقال بأنه من الوقاحة اعتراف الغرب الصريح بتمويل الانقلاب في أوكرانيا بالأرقام، وإنه لن يكون بمقدور أي أحد أن يملي على روسيا نوع المجتمع الذي يجب أن تعيش فيه وأي قيم يجب أن تتبعها. كما إنه لابد من فتح قنوات الحوار بين الحضارات، والبحث عن جوهر الوجود الإنساني الذي نلتقي فيه جميعاً؛ لذلك أشار إلى مبدأ القبول بالأخر دون فرض الاختلاف منوهاً إلى أنهم في بلاد الغرب من حقهم أن يفعلوا ما يشاؤون في مسيرات المثليين وغيرها، لكن ما لا يملكون الحق فيه هو إجبار الآخرين على الحياة في نفس الأطر. واكد على ان روسيا ليست عدواً للغرب. وتأسف على أن الشخصية السياسية لأوروبا اليوم أصبحت محدودة للغاية.. في إشارة ضمنية لتبعية زعماء أوروبا الغربية للقرار الأمريكي.
وأوضح بوتين في سياق كلمته بأن الخلاف الروسي مع الغرب لا ينفي وجود "الغرب التقليدي" الذي يرتبط بالديانات وحتى بالتاريخ القديم، والذي تعده روسيا قريباً منها، كما أن هناك غرب آخر عدواني واستعماري بعيد عن القيم والمبادئ الروسية.. وهي إشارة ضمنية منه إلى الليبرالية الغربية.
وقال بوتين: "بأنه على عكس الغرب نحن ندخل البيوت من أبوابها لا من الفناء الخلفي". مؤكداً في موقع آخر من كلمته بأنه من المستحيل بالنسبة لروسيا تطبيق سيناريو التدمير أو تحويلها لأداة لتحقيق أهداف جيوسياسية. وقد حاولت روسيا بناء علاقات مع الغرب وحلف "الناتو"، وكانت رسالتها: "فلنعش سويا".
ونوه بوتين في كلمته إلى أن مواجهة الدكتاتورية في الشؤون الدولية غير ممكنة سوى من خلال تطور البلدان والشعوب. موحياً بأن التنمية هي الطريق الأمثل لمواجهة الأنظمة المستبدة.
وأشار إلى إحدى أهم تطلعات روسيا لإنشاء منصات مالية دولية جديدة في العالم لا تعتمد على مركز تحكم واحد.. في إشارة لعالم متعدد الأقطاب.
واتهم بوتين في سياق كلمته التي امتدت لكثر من ساعة، الولايات المتحدة والغرب في أنهم قضوا على مصداقية الدولار والعملات الاحتياطية من خلال الاستيلاء على الاحتياطيات الروسية.
ولفت إلى أهمية التسويات بالعملات الوطنية كونها ستهيمن تدريجياً على العالم مستقبلاً، ما يستوجب أن تستفيد الغالبية من التجارة العالمية وليس من "الشركات الفردية فائقة الثراء".
وقال بأن التطور التكنولوجي لا ينبغي أن يزيد من عدم المساواة على الصعيد العالمي، بل يجب أن يقلله، هذه هي الطريقة التي تنفذ بها روسيا سياساتها.
وتحدث بوتين كيف أن انهيار الاتحاد السوفيتي أخلَّ بالتوازن الجيوسياسي في العالم.. وإن العالم يمر بنقطة تحول تاريخية هي الأخطر والأهم منذ الحرب العالمية الثانية.. مؤكداً على أن فترة الهيمنة المطلقة للغرب على الشؤون العالمية تقترب من نهايتها.
وقال بوتين بأن التغيير كان يجري منذ سنوات عديدة، ذلك التغيير التكويني في العالم شأنه شأن طبقات الأرض في حركة دائمة (الحركة التكتونية للصفائح). حيث أن هناك تغييراً دائم.
وعليه فإن هناك قوًى جديدة تظهر في آسيا وإفريقيا لديها آفاق واسعة، على الرغم من كونها فقيرة حتى اللحظة.. مؤكداً على أن ما يحدث في النهاية سوف يكون في مصلحة روسيا ومستقبلها.
وعن الحرب الأوكرانية، فقد أكد على أن الاعتراف الروسي باستقلال جمهوريتي دونباس لم يكن كافياً، وكان يجب انضمامها لروسيا.
وأشار إلى انه طالما أن الأسلحة النووية موجودة فهناك دائماً خطر استخدامها.
وذهب بوتين في حديثه إلى أن روسيا مستعدة للحوار مع الولايات المتحدة لحل أي قضية.
وتباهى بوتين في أن الولايات المتحدة لم تستطع اللحاق بروسيا بعد في صنع الأسلحة فرط الصوتية.. فيما كال المديح لرئيس وزراء التركي أردوغان الذي اعتبره شريكاً دائماً وموثوقاً به.
كما ونوه إلى أن جميع الأديان في روسيا وطنية جداً.
ومن جملة ما قاله بوتين بأن روسيا عرضت على أرمينيا خطة من أجل "قره باغ"، ولكن يريفان قررت السير في طريقها الخاص.
وفي أن الاقتصاد الروسي تكيف مع العقوبات وتجاوز المرحلة الصعبة، وأن الشركاء الغربيين يفعلون كل شيء لتشويه سمعة روسيا وإذلالها.
مشيراً إلى التصريحات الغربية التي ادعت بأن روسيا فجرت أنابيب السيل الشمالي واصفاً إياها ب "المجنونة".
وفي الخاتمة.. دوّى التصفيق بعد أن أفضى بوتين بما في جعبته من آراء وإجابات شافية على كل الأسئلة العاصفة التي كانت تجول في الخواطر، في محاولة منه لوضع النقاط على الحروف، باحتراف الزعيم الواثق من خطواته والمستقر في حضرة جمهور بدا سعيداً بلقائه.. مع ان خلاصة القول لا تَنْطُق بها الحناجرُ بل يُسْمَعُ رنينُها في خاتمة المطاف على أرض الواقع.. وإنْ بدا بوتين شخصية خلافية بالنسبة للغرب ولكن القاصي والداني يدرك بأنه الزعيم الأقوى، وآخر الزعماء الأوربيين الكبار.. هذا هو بوتين في نظر مؤيديه عبر العالم في أنه حامي التقاليد الروسية في وجه التمدد الليبرالي الغربي، ابن الأمة السلافية الواحدة، وحامل شعار "دعونا نتفق في ظل عالم متعدد الأقطاب ولنطوي مرحلة القطب الواحد الذي حول العالم إلى عبيد في حضرة سطوة أمريكا وهيمنة الدولار، والغرب من خلفه.