إنّ المراد من قول النّبي -صلّى الله عليه وسلّم-: (إنّما الأعمال بالنّيات)؛ أي أنّ الأعمال واقعة وحاصلة بالنّوايا، وكلّ أعمال البرّ لا بدّ لها من نيّة تسبق هذا العمل، ويعدّ هذا الحديث الشّريف من الأحاديث الجامعة، وقد ابتدأ به غالبية العلماء كتبهم؛ ليؤكّدوا على مضمونه من ضرورة الإخلاص في كلّ عمل يقوم به المسلم، والابتعاد عن الشّهرة والرّياء، وهو من رواية الصّحابي الجليل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وفيما يأتي شرحه:
إنّما: وهو حرفٌ يُراد به حصر الشّيء؛ لأنّه مركّب من حرفين؛ "إنّ" وهو حرف إثبات، و "ما" وهو حرف نفي، وإثبات النّفي عند علماء الأصول يفيد الحصر.
الأعمال: والأعمال هي كلّ التّصرفات الصّادرة عن الإنسان، وتشمل الأفعال والأقوال، وكلمة الأعمال الواردة في الحديث تحصر فقط الأعمال التي تفتقر إلى النّية، إلّا أنّ هناك من فسّرها على عمومها بأنّها تشمل جميع الأقوال والأفعال الصّادرة عن المسلم، والأعمال من حيث لزوم النّية لها مقسّمةٌ إلى أنواع، هي:
الأعمال القلبية: مثل التّوبة، و الحبّ في الله، وغيره.
الأعمال البدنية: وهي التي يقوم بها المسلم ليتقرّب إلى الله -تعالى-؛ كالصّلاة والصّيام، والزّكاة، والحجّ، وغيره، فهذه يشترط لها النّية لحصولها، كما أنّ هناك أعمالٌ يقوم بها الفرد من العادات اليومية، كالأكل والشّرب والنّوم، وهذه لا يُشترط فيها النّية، إلّا إذا نوى بها المسلم أن يتقوّى بهذه الأعمال على طاعة الله، فيأخذ أجراً عليها.
بالنّيات: والباء هنا تقدّر على أنّها للسبّب، فيترتّب عليه أن تكون النّية جزءاً من العمل أو العبادة، أو تقدّر على أنّها للمصاحبة، فيترتّب عليه كَوْن النّية شرطاً للعبادة، والنّيات مفردها نيّة، وهي في اللّغة: لفظٌ مشتقّ من نوى، أي: قصد، وفي الشّرع: هي قصد المسلم المقترن بفعله، والنّية مكانها القلب، وقد شرع الله النّية لتتميّز الأعمال عن بعضها، فقد يغتسل المسلم مثلاً من أجل النّظافة، وقد يكون الاغتسال من أجل إزالة النّجاسة، فبالنّية تتمايز الأفعال عن بعضها، كما أنّها تُفرّق بين مراتب العبادات، فقد يصلّي المسلم إمّا بنيّة أداء الفريضة وإمّا بنيّة النافلة،
شرح قول النبي: (وإنَّما لكل امرىءٍ ما نوى)
إنّ قول النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- ذلك فيه إعلامٌ أنّه لا يحصل للمرء إلّا ما تكون عليه نيّته، فمن نوى خيراً نال خيراً، ومن نوى شرّاً نال شرّا، لأنّ هذا أسلوب حصرٍ يبيّن أنّ جزاء العمل مترتّب على نيّة صاحبه، وعليه فإن أراد العبد بعملٍ ما ابتغاء مرضاة الله والتّقرب له وأداء طاعاته، قَبِل الله عمله، ونال الأجر والثّواب من الله -تعالى-، ومن كانت نيّته غير ذلك لم ينل الأجر والثّواب، كمن جلس في المسجد من أجل عملٍ دنيوي، فلا يحصل على الثّواب كمن جلس ناوياً أن ينتظر الصّلاة.
ويتّضح من نصّ هذا الحديث أنّه يجب تعيين النّية في العمل الذي يحمل أكثر من وجهٍ ويلتبس فيه هل قام به المرء من أجل العبادة أو غير ذلك؟ كأمور الطّهارة مثلاً كما سبق بيانه، وعليه فيكون المراد من الحديث أمرين، هما:
إنّ صلاح الأعمال وفسادها متوقّفٌ على النّية المصاحبة لها.
إنّ الجزاء المترتّب على هذه الأعمال يكون حسب النّوايا، فينال الثّواب من كانت نيّته صالحة، ويعاقب من فسدت نيّته، بينما النّوايا المباحة لا ثواب ولا عقاب يترتّب عليها.
شرح ما يتعلق بالنية المتعلقة بالهجرة
تعرّف الهجرة لغةً بالتّرك، وشرعاً يراد بها: ترك أماكن الفتن خوفاً من الوقوع فيها، والهجرات في الإسلام هي ستّ هجرات، وفيما يأتي بيانها:
هجرة الصّحابة -رضوان الله عليهم- إلى الحبشة، خوفاً من أذى قريش.
هجرة الصّحابة مع النّبي محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- من مكّة المكرمة إلى المدينة المنورة.
هجرة الوفود والقبائل إلى الرّسول -عليه الصّلاة والسّلام- قبل فتح مكّة، فكانوا يأتون إليه ليتعلّموا أمور دينهم، ثمّ يعملّونها لأقوامهم بعد رجوعهم، مثل وفد بني قيس.
هجرة من أسلم من أهل مكّة، إذ كانوا يأتون إلى النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- يشهرون إسلامهم ثمّ يعودون، كما فعل الصّحابي صفوان بن أميّة -رضي الله عنه-.
هجرة كلّ ما يكره الله وينهى عنه، قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (والمُهاجِرُ مَن هَجَرَ ما نَهَى اللَّهُ عنْه)،وهي أعظم الهجرات؛ لأنها تقتضي ترك الفواحش والمنكرات، وتدخل في معناها الهجرات السّابقة جميعها.
هجرة أماكن الفِتن لمن يستطيع ذلك.
ويتضّح من الحديث الشّريف: (فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)؛ أنّ من هاجر إلى الله ورسوله بنيّته وقصده، كانت هجرته لله ورسوله بثوابه وجزائه، فالهجرة إذاً تختلف فيها النّوايا والمقاصد، فهناك من يُهاجر ليتعلّم أمور الإسلام، فهذه هي الهجرة الحقيقيّة التي تُرضي الله ورسوله، وقد تكون الهجرة من أجل الدّنيا؛ أي من أجل تحقيق غرضٍ دنيوي من تجارةٍ، أو علمٍ، أو علاجٍ، أو غيره، أو من أجل الخِطبة و الزّواج، فليس لصاحب هذه الهجرات إلّا ما كان هو مهاجرٌ له، ولا يكون مهاجراً بمعنى الهجرة إلى الله ورسوله، وفي هذا تقليلٌ من شأن الدّنيا والسّعي وراءها مقابل السعي من أجل الله ورسوله.
وقد رُوي عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنّ سبب قول النّبي -صلى الله عليه وسلم- لهذا الحديث أنّ رجلاً من أهل مكة كان يهوى امرأةً من المدينة تُدعى أم قيس، وعندما خطبها رفضت إلّا أن يُهاجر لها، فهاجر لها وتزوّجها، وسمّاه النّاس بمهاجر أم قيس.
أهميّة النية
تكمن أهميّة النّية في عدة أمور، وفيما يأتي بيانها:
تعدّ النّية شرطاً لقبول الأعمال؛ فكلّ عملٍ يقوم به المسلم لا يقبل إلّا بشرطين؛ أولهما: الإخلاص إلى الله -تعالى-، وثانيهما:أن يُوافق هذا العمل شرع الله ورسوله، فأيّ عملٍ أريد به غير الله وكانت نيّة صاحبه الشهرة أو الرياء فهو غير مقبول.
تعتبر النّية الصّالحة من أهم أعمال القلوب التي تسببّ للمسلم السّعادة في الدّنيا والآخرة.
تكون النّية سببٌ في استمرار الأجر عند من اعتاد على فعلٍ ما، ثمّ منعه عذرٌ معيّن من القيام به، فمن نوى الجهاد مثلاً وعزم على الذّهاب، ثمّ حبسه عذرٌ كالمرض، كُتب له أجر المجاهد؛ لأنّ الله يُحاسب العبد على نواياه، وهذا من لطف الله -تعالى- ورحمته، ومثال ذلك قول النّبي -صلّى الله عليه وسلّم-: (إذَا مَرِضَ العَبْدُ، أوْ سَافَرَ، كُتِبَ له مِثْلُ ما كانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا).
تكون سبباً في مضاعفة الأجور على الأعمال اليسيرة.
تحوّل النّية الاعمال المباحة كالأكل والشّرب والنّوم إلى طاعات، فمن نوى بالزّواج مثلاً إعفاف نفسه كان زواجه قربةً لله -تعالى-.