كان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أول من حفظ القرآن الكريم، حيث كان جبريل -عليه السلام- يأتيه بالآيات فيستقبلها بشوق، وكان النبيّ -عليه السلام- يبدأ بحفظ تلك الآيات وفهمها، وقد كان -عليه السلام- حريصاً جداً على حفظها لحظة نزولها؛ فيبدأ بتكرارها بشدة وتركيز كبيرين خوف أن يسهو بها، حتى قال له -تعالى- مطمئناً إياه: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)، وبعد أن يحفظها -عليه السلام- كان يتلوها على أصحابه بتمهّل حتى يسهل عليهم حفظها في صدورهم؛ فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- أميّاً، وأرسله الله -تعالى- لقوم أكثرهم أميون، فقال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ)،وحفظه الكثير من الصحابة -رضوان الله عليه-، ومنهم الخلفاء الراشدين، وطلحة بن الزبير، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وأبي هريرة، وعبد الله بن عباس، وعمرو بن العاص -رضي الله عنهم- ومن النساء عائشة أم المؤمنين، وحفصة، وأم سلمة -رضي الله عنهنّ- وكل هؤلاء من المهاجرين.
وقد أثبتت الروايات أن أول من حفظ القرآن الكريم هو رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-، لكن لم تأتِ رواية أو دليل ينص على تحديد من حفظه بعد رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- من الصحابة -رضي الله عنهم-، ومع ذلك فمن المؤكّد أنّ الخلفاء الراشدين كانوا قد حفظوه في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-، وقد جاء دليل على أنّ هناك مجموعة من الصحابة كانوا قد حفظوه في عهد النبيّ -عليه السلام-، وقد جاء في كتاب الإبانة عن معاني القراءات، للمؤلف مكي بن أبي طالب القيسي؛ أنّ أوّل من حفظ القرآن الكريم بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- هو الصحابي الجليل سعد بن عبيد -رضي الله عنه-، أما من قاموا بجمعه من الخزرج فهم أبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو الدرداء، وأبو زيد -رضي الله عنهم-.
حفظ الصحابة للقرآن الكريم
أعطى الصحابةُ -رضوان الله عليهم- القرآنَ الكريم المكانة الأولى والمنزلة الكبرى في جميع شؤون حياتهم؛ فبدأو يتسابقون في حفظه وفهم آياته، ورافقوه في ليلهم ونهارهم، وفي حلّهم وترحالهم، وكانوا يلجؤون إليه في استشاراتهم الدينية والدنيوية؛ فقد تيقّنوا أنّه أعظم عبادة يتعبدون بها، وأنّ نصرهم سيكون بالتمسك به، وسعادتهم ستتحقق بالعمل به؛ بامتثال ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، والتخلّق بأخلاقه، والتحلّي بآدابه؛ فلم يكن هدفهم الأساسي هو مجرّد قراءة وحفظ القرآن الكريم؛ وإنّما التمثّل به في كلّ ما يخصهم، كما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقدّم قارئ القرآن على غيره في كثير من الأمور، فإن أراد أن يؤمّر على قوم أميراً يختار أقرؤهم للقرآن، وإن أراد أن يرسل مجموعة من الصحابة من أجل الدعوة؛ يعيّن أكثرهم قراءةً للقرآن ليكون إماماً عليهم، كما وكان يختار أيضاً صاحب القرآن ليكون متقدّماً في القبر إن اضطر الأمر أن يوضع أكثر من واحد في نفس القبر؛ كما حصل حين دفن شهداء غزوة أحد.
وكان أصحاب رسول الله -رضي الله عنهم- يحفظون الآيات عشراً عشراً، ولم يكن أحد منهم ينتقل إلى آيات غيرها حتى يكون قد حفظها وفهمها وعمل بها، ولذلك فقد كان قرّاء القرآن الكريم فقهاءً وعلماء، وقد اعتمدوا في حفظهم للقرآن على التلقّي الشفهي من رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-، أو ممّن سمعه من رسول الله من الصحابة المتقنين، أمثال عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت -رضي الله عنهم- وغيرهم، ولم يعتمدوا في الحفظ على ما كان قد كتب من القرآن سواءً في عهد النبيّ -عليه السلام- أو بعد كتابته في عهد عثمان -رضي الله عنه-، وتبعهم في تلك الطريقة كلّ من جاء بعدهم من التابعين، وأتباع التابعين، ومن جاؤوا بعدهم، حتى عصرنا الحالي، وبهذا وصلنا القرآن بالسند المتصل عن رسول الله -عليه أفضل الصلاة والتسليم-.
طرق لحفظ القرآن الكريم
هناك العديد من الوسائل التي تعين على حفظ القرآن الكريم بسهولة ويسر، وفيما يأتي بيان لها بشكلٍ مفصّل:
الإخلاص؛ بمعنى أن يخلص المسلم نيّته لله -تعالى- في حفظه؛ بأن يجعل حفظه من أجل الله -تعالى-، وللحصول على مرضاته، ونيل ما أعده الله -تعالى- لأهل القرآن، قال -تعالى-: (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ)،فمن قرأ القرآن دون أن يوجّه نيته لذلك، أو كان هدفه السمعة والرياء، فلا أجر له على قراءته.
تصحيح النطق بالقرآن وقراءته بطريقة صحيحة؛ ويأتي ذلك بعد إخلاص النية لله -تعالى-، ويتحقّق ذلك من خلال الاستماع لقارئ أو حافظ متقن، وهي الطريقة التي أخذ بها رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- القرآن عن جبريل -عليه السلام-، وقد كان يعرضه عليه مرة كل عام، وكذلك أخذها الصحابة عن النبيّ -عليه السلام-، وليس من الصحيح أن يعتمد الإنسان على نفسه في قراءة القرآن بالطريقة الصحيحة، حتى لو كان على علم باللغة العربية؛ وذلك بسبب وجود بعض الكلمات المخالفة لقواعد اللغة.
تحديد مقدار معيّن للحفظ في اليوم الواحد؛ فعلى من يريد حفظ القرآن الكريم أن يحدد مقدار ما يستطيع حفظه كلّ يوم، سواءً بالآيات أو بالصفحات؛ فبعد أن يخلص نيّته ويصحّح قراءته؛ يبدأ بالحفظ عن طريق ترديد الآيات وتكرارها، والذي يساعده في ذلك أن يتّخذ لترديده نغمة معيّنة يسير عليها ويتّبعها؛ فيكون بذلك قد اتّبع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-، ويساعد لسانه على سهولة الحفظ وسلاسة خروج الآيات منه؛ فعند اختلاف النغمة يلاحظ تلقائياً وجود الخطأ، ويساعده ذلك على تذكر الصحيح، كما أنّ الرسول -عليه السلام- قال: (ليسَ مِنَّا مَن لَمْ يَتَغَنَّ بالقُرْآنِ).
تثبيت حفظ المقرّر يومياً ثم الانتقال إلى ما يليه؛ فلا يجوز مجاوزة المقرر يومياً حتى يتم تثبيت ما قبله، ولعلّ أكثر ما يساعد على التثبيت هو تكرار الآيات في جميع الأوقات ومنها الصلوات؛ فيساعده ذلك على التثبيت، ويتعوّد على تلاوة ما يحفظه حتى أثناء انشغاله وعمله، ولا يأتي الليل إلّا وقد ثبّت ما كان مقرراً عليه حفظه خلال النهار، مع التنبّه إلى أنّه في حال حصل أمر مانع من التثبيت؛ فلا ينتقل إلى ما بعده حتى يثبّته.
الالتزام بمصحف واحد يُستخدم للحفظ؛ حتى تنطبع صورته في الذهن، كما أنّ النظر يعتبر وسيلة من وسائل الحفظ، فالحفظ من مصاحف متعدّدة الرسم صعب جداً.
فهم الآيات المراد حفظها، من خلال قراءة التفسير المتعلّق بها، وربط الآيات بعضها ببعض، وهذا يساعد في الحفظ، لكن لا يُعتمد عليه بشكل أساسيّ، وإنّما الأساس هو التكرار؛ فيكون بذلك العقل منشغلاً بالمعنى، واللسان بالقراءة، فيتمّ الحفظ جيداً، أمّا من اعتمد على المعنى فقط فإنه يقع في أخطاء كثيرة.
ربط أول السورة بآخرها؛ فلا ينتقل الشخص إلى السورة التي تليها حتى تجري على لسانه مجرى الماء، لا يخطئ في آياتها، ولا يتردد، فتكون ثابتة راسخة في الذهن.
عرض الحفظ على شخص آخر عن طريق التسميع، ويفضل أن يكون ذلك الشخص حافظ حفظاً متقناً أو يتبّع على المصحف، حتى يكون على يقظة لما يقع من المسمّع من أخطاء؛ فقد يكون قد نظر إلى المصحف ومع ذلك حفظ بطريقة خاطئة؛ فلا بد له من أن ينبهّه أحد إلى ما يقع فيه من الأخطاء.
المتابعة المستمرة، وعدم الانقطاع عن المحفوظ لفترات طويلة؛ لأنّ حفظ القرآن ليس كغيره من الحفظ؛ وإنّما هو سريع التفلّت والنسيان، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (فَوالذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ لَهو أشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الإبِلِ في عُقُلِها)، فعلى حافظ القرآن أن يلتزم بقراءة جزء واحد على الأقل كل يوم، مما يساعده على المحافظة على حفظه من النسيان، وإن زاد فلا يزيد عن عشرة أجزاء في اليوم، تحقيقاً لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-: (لم يَفقَهْ من قرأ القرآنَ في أقَلَّ من ثلاثٍ).
العناية بالمتشابهات؛ ففي القرآن الكريم ستّة آلاف آية وزيادة، ومنها ألفي آية تدخل في التشابه، سواء بحرف أو كلمة أو أكثر، قال -تعالى-: (اللَّـهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّـهِ)، والمقصود بالتشابه؛ هو التشابه الذي يكون في ألفاظ القرآن الكريم، فكلما كان الحافظ مطّلعاً على متشابه القرآن، كان الحفظ أمتن.
فضل حفظ القران الكريم
يسّر الله -تعالى- على عباده قراءة القرآن الكريم؛ تلاوة وحفظاً، وقد ورد ذلك في القرآن الكريم، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ)، وقد كرر الله -تعالى- ذكرها في القرآن أربع مرات؛ تأكيداً على ذلك، وفي ذلك دافع للمسلم ليكثر من تلاوة القرآن الكريم وحفظه والعمل على تعلّمه وتعليمه، وقد ميّز الله -تعالى- أهل القرآن بأن جعلهم أهله، كما أنّ الله -تعالى- اختار محمد -صلّى الله عليه وسلم- بالقرآن؛ فقال: (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ)، وقد تعهّد الله -تعالى- بحفظه من أن يدخل إليه التحريف، وقد تضمّن القرآن الكريم العديد من الآيات التي تنص على مكانة أهل القرآن، وما أعدّه الله -تعالى- لهم من النعيم في دنياهم وآخرتهم؛ حتى تكون تلك الآيات دافعاً لهم لاغتنام الفرصة لتحقيق السعادة في الدنيا والآخرة.
كما أنّ صاحب القرآن يدخل الجنة؛ فقد ورد عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه سلّم- قال: يقالُ لصاحِبِ القرآنِ: (اقرأْ وارقَ ورتِّلْ ، كما كنتَ تُرَتِّلُ في دارِ الدنيا ، فإِنَّ منزِلَتَكَ عندَ آخِرِ آيةٍ كنتَ تقرؤُها)، وكلمة صاحب القرآن في الحديث الشريف تشمل من حفظ القرآن، أو حفظ جزءاً منه وتدبّر آياته، وداوم على تلاوته، وعمل بآدابه وأحكامه، فيصعد في منازل الجنة بحسب ما حفظه من القرآن؛ فيصعد وهو يرتل تلك الآيات مستمتعاً بها