فزمجرة الطبيعة لا تعترف بالحدود ولا تدق الأبواب حين تباغتنا.. فانعكاساتها المدمرة على المكان والإنسان تتجاوز كل الحسابات.. وأكبر شاهد على ذلك، زلزال سوريا وتركيا العابر للحدود البينية.
فلا بد من الولوج إلى الحدث المخيف من خلال تلك المشاهد المروعة والقصص المأساوية التي خلفها الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا فجر الاثنين 6 فبراير 2023، وأودى بحياة الآلاف في وقت لا تزال مئات العائلات مفقودة تحت الأنقاض.
كانت جهود رجال الإنقاذ متضافرة رغم الصعوبات التي تعترض طريقهم.. وفي قلب المشهد المخيف رصدت عدسات التصوير أحد المنقذين وهو يتابع بأذنيه المشنفتين، أنينَ طفل واهن كان يلتقط رسائل المنقذين وهو بين الحياة والموت تحت الحطام، ومن خلال ردة فعله والصوت الصادر من جهته تحت الركام حُدّدَ مكانه وبدأت عملية إنقاذه الحذرة.. وقلوب المتابعين للمشهد في محيط المكان وعبر الفضاء الرقمي، تلهج بالدعاء متضرعة إلى الله كي يخفف المصاب على المنكوبين.
ومن رحم هذا المشهد المرعب أخرج الطفل السوري من تحت الأنقاض وقد وجد حياً في حضن والده الذي قضى جراء الزلزال.
هذا غيض من فيض.. ومشهد تكرر بفعل هذا الزلزال المدمر الذي ضرب تركيا حيث تحرك العالم لنجدتها بوتيرة أعلى مما حدث مع الشمال السوري المحاصر بالنكبات ورغم ذلك تم التنسيق مع تركيا لتنظيم دخول المساعدات عبر معابرها نحو معالم ما تبقى من أثر في المناطق المنكوبة بإدلب وغيرها.
وفي مقطع مصور على إنستغرام، ظهر سوري من مدينة جنديرس في ريف حلب الشمالي، يبكي بحرقة بعد أن فقد اثني عشر فرداً من عائلته جراء الزلزال قائلا يائساً:
"الحمد لله على كل حال"
وفي حسابها نشرت صحيفة "تركيا اليوم" على إنستغرام صورة لطفلة تدعى رغد إسماعيل خرجت من تحت الأنقاض لتجد عائلتها فارقت الحياة.. فأي مستقبل ينتظر أمثال هذه الطفلة ممن فقدوا أهاليهم، وتركوا في مهب الريح!.
فقد تآمرت عليهم الطبيعة المزمجرة ببردها القارس وثلوجها المتساقطة بغزارة، وسدت نسبياً طرق الإمدادات اللوجستية في ظل ظروف سياسية شهدت مناكفة بين الحكومة التركية والمعارضة خلافاً عمّن يتحمل مسؤولية الكارثة، والتقاذف بتهم الفساد في أتون صراع على السلطة، بينما لا يخفى على أحد ما يجري في المنطقة السورية المنكوبة من صراع للأجندات الخارجية التي ضيقت الخناق على المنكوبين وقللت من فرص إنقاذهم فتحولت المخيمات إلى ملاجئ آمنة بعد انهيار المباني المتهالكة والبنية التحتية السيئة.
ففي فجر يوم الاثنين ورغم المسافة الطويلة التي تُبْعِدُ الأردنَّ عن الحدث، إلا أننا شعرنا بهزة أرضية خفيفة تبين لنا فيما بعد بأنها ارتدادات لزلزال مدمر بقياس 7،8 ريختر ضرب قلب الأناضول "عنتاب" وشمال سوريا "إدلب" ووصلت ارتداداته إلى لبنان والاردن وشمال تركيا وقبرص.
إنها أكبر كارثة تعرضت لها تركيا وفق ما قاله الرئيس أردوغان في سياق وصفه للكارثة واستعراضه قائمة الدول التي سارعت لتقديم دعمها المادي لجهود الإنقاذ التركية.
حيث تتضاءل الآمال في العثور على مزيد من الناجين تحت الأنقاض بعد خمسة أيام من كارثة زلزال تركيا وسوريا،
ووفقا لأحدث البيانات الرسمية، فإن عدد قتلى الزلزال في تركيا ارتفع إلى 12 ألفا و873، والمصابين إلى 62 ألفا و937.
أما في سوريا، فقد ارتفع عدد القتلى إلى 3162 في عموم البلاد، وبلغ عدد المصابين 5685.
وخلفت عشرات آلاف المصابين، وامتدت آثارها في المجمل إلى ملايين السكان في البلدين.
وكان التوقيت عاملاً مساعداً في تفاقم الكارثة حيث باغت الزلزال الناس وهم نيام في ظروف جوية سيئة، حيث شهدت المنطقة المنكوبة تساقطاً للثلوج، وأودى الصقيع بحياة المئات من المدنيين تحت الركام، ناهيك عن بنية تحتية وأبنية لا تستوفي شروط مقاومة الزلازل في منطقة تقع على الحزام الناري الكثير الزلازل الذي يبدأ باليابان واندونيسا والباكستان وإيران فتركيا وجزء من بلاد الشام لينتهي في تشيلي غرب القارة الأمريكية الجنوبية.. وهي مناطق تتحرك تحتها الصفائح التكتونية كثيراً كما حدث من تصادم الصفائح التكتونية العربية الأفريقية والتركية تحت المنطقة التي شهدت زلزال تركيا وسوريا،
ورغم أن العدد الأكبر من الضحايا سُجل في تركيا، فإن التحذيرات تتوالى من ارتفاع مضطرد في عدد القتلى بشمالي سوريا، وسط ضعف الإمكانات وقلة الموارد وتأخر وصول المساعدات الدولية اللازمة لعمليات البحث والإنقاذ.
ويواجه سكان الشمال السوري مخاطر أخرى؛ إذ قالت مصادر بالدفاع المدني "الجزيرة" إن الزلزال تسبب في تصدعات في سد التلول على نهر العاصي بريف إدلب، وإن المياه تدفقت إلى منطقة المخيمات شمال سلقين جراء هذه التصدعات.. وقياساً إلى ذلك فعلى تركيا فحص بنية سدودها من باب الاستشراف والتأكد من سلامتها فالكارثة لها ارتدادات خطيرة على البيئة بأشكالها.
وتجدر الإشارة إلى أنه قبل ثلاثة أيام من وقوع الزلزال، تنبأ الجيولوجي والباحث في شؤون الزلازل فرانك هونغربيتس قائلاً:
"عاجلًا أو آجلًا سيقع زلزال بقوة 7.5 على مقياس ريختر في هذه المنطقة (جنوب أو وسط تركيا، الأردن، سوريا، لبنان)”. فحدث بالفعل ولكن بقوة 7.8 ريختر فكانت الكارثة المشهودة في عنتاب وإدلب.
ولكن أحداً لم يكترث بنتائج مثل هذه البحوث الجيولوجية؛ ما يضع أوراق جميع المعنيين على طاولة المساءلة فيما يتعلق بالإجراءات الوقائية اللازمة.. ولنقل أن الكارثة مضت فهل تستعد الدول التي تعرضت للزلزال مباشرة أو استشعرت بارتداداتها لما هو أسوا؟
فقد ذكر الدكتور عصام حجي الباحث في علوم الأرض والكواكب إن تغيير لبّ الأرض الداخلي لمحور دورانه -الذي ذكرته دراسة نشرتها مجلة "نيتشر جيوساينس” العلمية- يمكن أن يؤثر في بعض التغييرات التي تقع في باطن الأرض.
مشيراً إلى توقّف اللب الداخلي للأرض وانعكاس محور دورانه، وهو ما قال عنه إنه يؤثر في تغيّر حركة الزلازل.
وعمّا إذا كان هناك زلزال آخر كبير متوقع، قال حجي إن الضغط الكبير بين الطبقات قد انفك بالفعل وبالتالي فتوابعه تكون أقل حدة، وبالتالي يكون حدوث زلزال ثانٍ قوي احتمالًا ضعيفًا.
وفي المحصلة هذا ينبه إلى ضرورة تفعيل مراكز رصد الزلازل في الدول المعنية والتنبؤ بوقوعها لتفادي آثارها السيئة، من حيث مراقبة المباني والمنشآت وفرض شروط مقاومة الزلازل وشروط السلامة على معاملات المباني ووثائقها الهندسية من حيث عرض الشارع وارتفاع المباني وتطوير بنية الأساسات حتى تمتص اهتزازات الأرض المتحركة وطبيعة المواد اللازمة وأية شروط معتمدة وفق المعايير المناسبة التي تعتمدها الدول المتقدمة كاليابان.. ولا بد من تضافر الجهود حتى نصنع مستقبلنا الآمن بأيدينا فزمجرة الطبيعة لا تعترف بالحدود ولا تدق الأبواب حين تباغتنا.