هذا هو الأردن، ليس مجرد جامع وكنيسة يفصل بينهما شارع كما في العبدلي، فهناك جوامع كثيرة وكنائس متلاصقة يستند فيها الجدار على الآخر، وما أكثرها في بلادنا الأردنية المقدسة، وأفضل تسميه تطرب الآذان هي "دور عبادة" يذكر فيها إسم الله القدّوس. فكم من جوامع تبّرع لبنائها مسيحييون وكم من كنائس تبّرع لبنائها أو المساهمة في بنائها مسلمون، فكلاهما يمتلكان الحسّ العروبي والوطني والديني النقي والإنساني العميق.
وما هذه الصورة إلا إنعكاس بسيط لما عليه الحالة الأردنية الفريدة التي تجسدت عبر آلاف السنين منذ العهدة العمرية بفضل آبائنا وأجدادنا الذين لم يكن ليفصِلَ بينهم لا شارع ولا جدار، بل جمعتهم البيئة الأردنية التي جَمّعت القلوب ورصّت الصفوف ووحدت الآمال في العمل معاً وسوية في مواجهة تحديات الحياة وتذليل كلِّ الصعوبات لبناءِ غدٍ مشرقٍ وواعدٍ للأجيال الصاعدة، عمادُه الإنتماء لثرى الأردن الطهور وولاء لقيادته الهاشمية التي ما انبرت في تعزيز اللحمة الوطنية في نفوس الأردنيين بغض النظر عن عقيدتهم أو إنتمائهم الديني أو أصلهم وفصلهم، فجميع الأردنيين سواء.
.. وهذه عقيدة لا يمكن الحياد عنها، ونراها تتجسد في دستور مملكتنا الحبيبة والقوانين والأنظمة والتشريعات التي تراعي على الدوام في تعديلاتها ومراجعتها مسائل المواطنة والعدالة الإجتماعية وتحقيق المساواة في كافة مناحي الحياة. لذلك فحالة الوئام الديني في بلادنا هي حالة متأصلّة وأصيلة لسنا بحاجة إلى إثباتها، وإنما نحن بحاجة إلى تعزيزها كوديعة تُحفظ للأجيال الصاعدة خصوصاً بظلِّ العولمة التي أدخَلَتْ إلى مجتماعاتنا أفكاراً وممارسات وعادات غريبة علينا وعلى قيمنا العربية الأصيلة وخصوصاً على قيم ومفهوم وتكوين الأسرة، والترابط الأسري والعائلي. فالمسيحي هو عربي ثقافةً وحضارةً ولغةً وفكراً، وهو الأقرب إلى أخية العربي المسلم الذي يُشاطره الحياةَ بكل تفاصيلها ودقائقها، ولذلك استُهدِف الوجود العربي المسيحي وتم العمل على استئصاله من بيئته الطبيعية التي له فيها دوراً أساسياً في تقدمها وتطورها ونهضتها، من أجل تحويل الصراع في منطقتنا إلى صراع ديني بحت.
ولقد أكد صاحب الجلالة الهاشمية الملك عبد الله الثاني ابن الحسين المعظم في مقابلته على السي إن إن مؤخراً في موقع المغطس التاريخ وكذلك في كلمته في الإفطار الصباحي في واشنطن وفي مؤتمر القمة العربية في القاهرة حول القدس بعنوان "القدس صمود وتنمية" دوره في الحفاظ على الوجود العربي المسيحي التاريخي في الديار المقدسة والحفاظ عليهم ووقف الإعتداء على مقدساتهم، فهم جزء أصيل ومكون أساسي من بلادنا العربية سابقاً وحالياً ومستقبلا. وكيف لا، وهو الوصي الشرعي على المقدسات الإسلامية والمسيحية والداعم الحقيقي للحفاظ على ثالث أهم موقع مسيحي في العالم وهو الموقع التاريخي لعماد السيد المسيح، مكان إنطلاقة الدعوة المسيحية، والساعي لتطوير الموقع الأًصيل ليرتقي إلى موقعه التاريخي والتراثي والإنساني والدينين وقد أُسند لرعايته وتطويره والحفاظ عليه مجلس أمناء برئاسة صاحب السمو الملكي سمو الأمير غازي بن محمد حفظه الله ورعاه، حتى نال هذا الموقع شهادات إعتماد متعددة من معظم القيادات الدينية المسيحية في العالم، وإرتقى هذا الموقع التاريخي في العام 2015 وبجهود وسواعد أردنية ليُسجَّل على قائمة التراث العالمي، حتى أصبح وجهةَ حج مسيحي معتمد من المواقع الخمسة التي إعتمدها الفاتيكان في الإردن، ومنطَلقاً للوئام الديني الذي يَفتقرإليه العالم في أرجاء مختلفة والذي مزّقته النزاعات والخصومات الدينية متسببة في إنتهاكات صارخة للنفس البشرية وللحريات الدينية.