أهداف عملية"بيت وحديقة" الحقيقية ورهاب المجهول يغشى الإسرائيليين في ظروف عدم الرؤية!
وأسئلة أخرى
من يصدق بأن جيش الاحتلال الإسرائيلي وحكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة التي تنتهج سياسة التطهير العرقي ضد الفلسطينيين، وتهويد الضفة الغربية، فتهاجم مخيم جنين بقوات كبيرة قوامها ألف جندي من جيش الاحتلال ممن دربوا على حرب الشوارع، إلى جانب قوات النخبة والشاباك مدججين بالسلاح الخفيف والثقيل (15 ألية ميدانية مصفحة ومختلفة الوظائف) والطائرات العمودية والمسيرات والصواريخ -فقط- من أجل مصادرة مخازن سلاح المقاومة واعتقال أو قتل ما يتاح لجيش الاحتلال من أفراد المقاومة التي ابلت بلاءً حسناً وصمدت حتى دحرت المعتدي فأعلن جيش الاحتلال عن انسحابه.
ولتوضيح الصورة أكثر فإن الانسحاب نجم عن ضغوطات إسرائيلية بعد اجتماع لتقييم الوضع دعا إليه وزير الأمن يوآف غلانت، وشارك فيه رئيس أركان الجيش هرتسي هليفي وقادة الأجهزة الأمنية، إذ اعتبر المجتمعون العملية ناجحة وحققت الجزء الأكبر من أهدافها، وعليه أعلن أكثر من مسؤول تقديراتهم لإنهاء العملية مساء الثلاثاء الماضي.
وهذا هراء فالشواهد التي تكذبهم كثيرة! إذْ أن جيش الاحتلال أرغم على الانسحاب من قبل الإسرائيليين لسببين:
الأول: خشية استفحال الوضع بتوحيد المقاومة وانتشار تجربة جنين في عموم مدن الضفة الغربية المحتلة فيما تؤكد عملية تل ابيب التي أدت إلى مقتل سبعة إسرائيليين هذا الأمر، إلى جانب القصف الصاروخي التحذيري لغلاف غزة من قبل المقاومة التي أوحت برد صاروخي قادم ما لم تتوقف العمليات في جنين، مع أن الإسرائيليين ردوا بقصف غزة ولكن الرسالة كانت قد صلت إليهم في وقتها.
حيث أعرب أكثر من مسؤول أمني وسياسي إسرائيلي عبر الإعلام الإسرائيلي عن خشيته من أن تكون عملية "بيت وحديقة" بمثابة الشعلة لتوحيد بقية الساحات: غزة، والشمال تجاه لبنان وسوريا، إذ اتخذ الجيش احتياطاته بنشر قواته خشية تسلل مقاتلين وتنفيذ عمليات ضد أهداف إسرائيلية تتسبب بمقتل إسرائيليين
الثاني:- صمود المقاومة في جنين التي توجت جهودها الملحمية بالنصر المبين، وقد اعترف جيش الاحتلال (قنواة ومواقع إسرائيلية) بأن قواته واجهت صعوبات في مخيم جنين بسبب عدم تحضير واستعداد الجيش لمثل هذه العمليات، بل "لا توجد له تجربة بكل ما يتعلق بالعملية المحدودة في مثل هذا القتال".
وهذا اعتراف المهزوم في لحظة صدق مع النفس قبل أن تمحوه الأكاذيب المضللة التي لا تنطلي حتى على الطفل في القماط!
وكشفت العملية عن زيف ما روج له جيش الاحتلال الإسرائيلي، مدعوماً من نتنياهو وغلانت، بأنه اتخذ قرار تنفيذ العملية بعد الكشف عن كميات كبيرة من الأسلحة في مخيم جنين، وعن قواعد صاروخية وبنى تحتية خطرة لعناصر التنظيمات الفلسطينية المسلحة فكذّبَتِ المياهُ الغطاسَ حين صفعت الخيبةُ وجهَ نتنياهو المكفهر.
ولو افترضنا جدلاً بأن هذه العملية الضخمة حققت أهدافها الاستراتيجية فلماذا يخرج غالبية الشارع الإسرائيلي - باستثناء اليمين المتطرف- ضد نتنياهو معتبراً العملية برمتها استعراضية أو هزيمة مذلة، في محاولة يائسة لكسب تأييد الإسرائيليين الذين انقلبوا عليه؛ حتى يغضوا النظر عن قانون تطوير القضاء الذي يسعى نتنياهو من خلاله إغلاق ملف قضية الفساد التي تتربص بمستقبله؟ سؤال وجيه.
ليس هذا فحسب؛ بل هيمنت الانتقادات لعملية "بيت وحديقة" الفاشلة على نقاش الإسرائيليين عبر الإعلام الإسرائيلي، ووجهت جهات عدة الانتقادات اللاذاعة للقيادتين السياسية والعسكرية، سواء في شأن كيفية اتخاذ القرار بعد أن تبين أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو عرض قبل أكثر من أسبوع خطة العملية على المجلس الوزاري الأمني المصغر (الكابينت) ورفضت بأكثرية ساحقة، وعلى رغم ذلك خرجت العملية إلى حيز التنفيذ بقرار اقتصر على نتنياهو وغلانت وقادة عسكريين. وهذا تجاوز يسجل على نتنياهو .
لقد خرج اليمين الإسرائيلي في اليوم الأول من عملية "بيت وحديقة" يتفاخر بما سماه "الإنجاز الكبير للجيش" في العملية، وأطلق أكثر من وزير ونائب توقعاته بأن هذه العملية العسكرية "ستكسر التوازن" بحسب الوزير بتسلئيل سموطرتش، مضيفاً:
"الحقيقة أن (بيت وحديقة) ليست حملة (الدرع الواقي 2002)، لكنها حملة ستعيد الردع لإسرائيل وتغير الاتجاه بواسطة استئصال الإرهاب" على حد تعبيره.
وهذا يدل أيضاً على أن أهداف العملية تتجاوز ما يسوق له نتنياهو الذي يحاول جاهداً الخروج بماء الوجه، من خلال الادعاء بأن العملية حققت اهدافها. فهل يستقيم ذلك بدون اجتثاث "الإرهاب" الذي اشار ُليه سموطرتش وفق الرؤية اليمينية المتطرفة.
وماذا عن الجاهزية العسكرية الضخمة للعملية، من حيث الحجم ونوعية العتاد والتنسيق بين كافة الأجهزة الأمنية والجيش؟ .
مع أنني لست متأكداً فيما لو قال سموطرتش ذلك قبل عملية تل أبيب، أم بعدها، حيث تلعثمت الألسن واختلطت الصور في العقل الإسرائيلي، ما دعا صحيفة إسرائيلية مرموقة "هآرست" لتضع اليد على الجرح دون رتوش كما سنرى في خاتمة المقال.
ويمكن تلخيص أهداف عملية "بيت وحديقة" الإجرامية بما يلي:
أولاً:- أهداف سياسية تتعلق بمحاولة حكومة نتنياهو إقناع الإسرائيليين بضرورة التوحد في وجه ما أسماه بالإرهاب الفلسطيني بغية اجتثاثه، وبالتالي- كما أشرنا آنفاً- سيكون بوسعه تمرير التعديلات القضائية التي يرغب ائتلاف نتنياهو بتمريرها ربما لتهيئة ظروف تبرئته من تهم الفساد لاحقاً؛ إلا أن الإسرائيليين لم تنطلِ عليهم هذه الأكاذيب ما أجج الشارع الإسرائيلي ضده تزامناً مع قرار اجتياح جنين الفاشل.
ثانياً:- أهداف أمنية تتعلق بالسعي لاجتثاث المقاومة وتدمير بنيتها التحتية في جنين واغتيال أو اعتقال من تطوله الأجهزة الأمنية ومن ثم مصادرة مخازن الأسلحة وما قيل بانها منصات لإطلاق الصواريخ.
وذلك تمهيداً لإنجاح مقررات قمتي النقب والعقبة لمساندة سلطة اوسلو في بسط نفوذها الأمني على الضفة الغربية وتقوية أجهزتها الأمنية وزيادة كوادرها البشرية بالتنسيق مع الأمريكيين الذين أُعْلِموا بساعة الصفر.
ولكن خلافاً لذلك، فإن اجتياح جنين دفع بالسلطة الوطنية الفلسطينية في سابقة تسجل لها، لتعلن تخليها عن مخرجات القمتين بالوقوف إلى صف المقاومة في جنين، داعية إلى اجتماع الفصائل في القاهرة، بغية توحيد الصفوف تحت راية واحدة. واعتقد أن ذلك سينجح فيما لو أجمعت جميع الأطراف على خيار المقاومة، بعد أن أُنْهِكَت السلطة بتقديم التنازلات المجانية وصولاً إلى الاستنزاف المهين، حتى تحول رئيسها محمود عباس إلى كائن قيادي مهمش، وانحصر دور سلطته في تصريف الأعمال وإدارة الخدمات المنقوصة والتنسيق الأمني لأجل حماية المستوطنات.
وهذه النتيجة بحد ذاتها تعتبر صفعة قوية وجهت لنتنياهو الذي كان يراهن على دور السلطة في سياق قمتي النقب والعقبة، بمشاركة عربية ضاغطة باتجاه تنفيذ بنوديهما؛ لكنها جهودٌ باءت بالفشل الذريع.
ثالثاً:- الهدف المعنوي لاستعادة هيبة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، حيث تمرغ جبينه في التراب بعد عمليتين فاشلتين هذا العام 2023 (آخر يناير.. ويوليو) في جنين ومخيمها، وهزائمه المتلاحقة أمام صواريخ المقاومة على مدار سنوات التي أصابت العمق الإسرائيلي محيدة نسبياً القبة الحديدية التي تعتبر فخر الصناعة العسكرية الإسرائيلية.
ولكن في حرب الإرادات كان التفوق فلسطينياً بامتياز.. وظلت ثقة الإسرائيليين بجيشهم مهزوزة.
دعوني اختتم مقالي -كما وعدتكم- بافتتاحية هآريست الإسرائيلية، الثلاثاء الماضي التي تعبر عن تشرذم العقل الإسرائيلي فيما يتعلق بالتخبط في اتخاذ القرارات المصيرية، بفعل المقاومة الأسطورية في عموم فلسطين المحتلة، وخاصة في جنين التي وضعت النقاط على الحروف.
تقول الافتتاحية: "حملات كهذه تطورُ الوهمَ الخطيرَ بأن أسس الإرهاب الفلسطيني (وفق تعبيرها) تتمركز في مخيم لاجئين واحد أو في مدينة واحدة، وبأنه تكفي ضربة شديدة واحدة لإبادة البنى التحتية له، لكنْ تتعاظمُ الدوافعُ للمَسِّ بالإسرائيليين كلما اتسعت مجالات الاحتكاك بين اليهود والفلسطينيين في الضفة من سطوٍ على الأراضي، وسلبٍ للممتلكات، وتقييدِ حركةِ الفلسطينيين، واعتقالِ المئات والآلاف وقتلِ الأبرياء، وإقامةِ مزيد ومزيد من المستوطنات، وتبييضِ البؤر الاستيطانية وإحراقِ البيوت والسيارات واقتلاعِ الأشجار وإبادةِ المحاصيل، وهذه كلها جزءٌ من عينة القمع التي تمارسها إسرائيل بالتعاون مع المستوطنين ضد السكان الفلسطينيين".
ثم تضع الصحيفة يدها على الخلل من باب الخوف على مصير "إسرائيل" مكملة الافتتاحية:
"وفي ضوء مسرحيات رعب الاحتلال وشغب المستوطنين، لا يمكن لإسرائيل أن تتوقع الهدوء في منطقة هي نفسها تعرفها بأنها تخضع للاحتلال".
وأتوقف عند هذا الحد من الاعتراف الشجاع، فالكلام يعكس مدى فاعلية المقاومة الموحدة في إطار وحدة الفصائل والساحات في حرب الإرادات التي يُهَمَّشُ فيها السلاح النوعي الأقوى، فيما يُعَمَّدُ النصرُ بدماء الضحية التي ستدحرُ مقاومتها الاحتلال.
إنّها رهاناتُ كلِّ من يتعظ بالتاريخ الذي يعيدُ ترتيب أوراقه في أطول احتلال عنصريِّ شهده العصر.