في هذه الآية الكريمة: "وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا"، يوضح الإمام المفسّر فخر الدين الرّازي عدة معانٍ تفسيرية:
المعنى الأول: أن الله جعل الناس شعوبًا مختلفةً كالأعاجم، حيث لا يعرفون بعضهم البعض، وأيضًا جعلهم قبائل ينتمون إليها بأصل معروف مثل العرب وبني إسرائيل.
المعنى الثاني: أن الله جعل الناس شعوبًا تنبثق من القبائل، حيث ينحدر القبيلة منها شعوبًا متعددة، ومن هذه الشعوب تنتج فروعًا مختلفة، ومن هذه الفروع تنبثق فصائل وأقسام ينتمي إليها الأقارب.
ومقصود الآية هو التعارف بين الناس وليس التفاخر ومن هذا المعنى يتضح بعض الدلالات الهامة:
- التعارف يستدعي التناصح والتعاون بين الشعوب والقبائل، ولا مجال للتفاخر.
- التعارف يعارض التناكر، وبالتالي أي فعل أو قول لا يؤدي إلى تحقيق التعارف بين الأمم، فإنه يخرج عن مقصود الله، وينحرف نحو التناكر المرفوض شرعًا، مثل الغيبة والسخرية والغمز واللمز.
تحمل الآية الكريمة معانٍ لطيفة تؤكد على عدم جواز الافتخار بالمصدر الذي فيه التعارف والتآلف. فالافتخار الحقيقي هو في معرفة الله تعالى. ومعنى التعارف في الآية هو التعارف الذي يقوم على التناصح والتناصر بالحق، والتعاون في بناء المجتمع، وتبادل الحقوق بين الأقارب، وتأكيد النسب. وهذا التعارف لا يُساوي بين الناس، وإنما يفتح المجال للتفوق بناءً على التقوى. أكثر الناس تقوى أحقهم بكرامة الله، وبهذا يخرج من ميدان منافسة الكرامة من يسعى لها بناءً على الأقوام أو الأنساب.
وفيما يتعلق بسبب نزول هذه الآية الكريمة، هناك قولان:
القول الأول يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بني بياضة أن يزوجوا رجلًا منهم يُدعى أبا هند، وعارضوا هذا الأمر بسبب انتمائه إلى الطبقة المنخفضة، فنزلت هذه الآية لرفض التعصب وتنبيه على عدم الاختلاف إلا بالتقوى.
القول الثاني يقول إن سبب نزول هذه الآية هو أن بلال بن رباح صعد إلى سطح الكعبة يوم فتح مكة وأذن في الناس، فسخر منه الناس بسبب لونه الأسود، فنزلت هذه الآية لإدانة هذا السلوك.
يتضح من ذلك أن نزول الآية كان لنبذ أعمال بعض الناس الذين اعتقدوا أن الأفضلية تكون لأولئك الذين يتمتعون بوضع اجتماعي أعلى أو ببشرة بيضاء. فجاءت الآية لتوضيح أن معيار التفضيل بين الناس عند الله هو التقوى فقط.
ويتبين من موقف الإسلام من العنصرية أنه يقف بشدة ضد الأفكار التي تميز بين البشر بناءً على شيء غير التقوى فهو يحارب العنصرية والتمييز القبلي بكل أشكالها، ويعتبر معيار التفاضل بين البشر هو التقوى فقط. كما يحث على نبذ التعصب وينبذ الفروق القائمة على العرق أو اللون. وقد حث الإسلام على محاربة العنصرية والتعصب، وأكد أنه ليس من جماعته من يدعو إلى التعصب أو يقاتل بسببه أو يموت عليه.
بالإضافة إلى ذلك، سعى الإسلام إلى إزالة الفوارق القائمة بين الناس بناءً على الطبقة الاجتماعية أو القومية، وقد قام بتشريعات تهدف إلى إزالة الرق والعبودية التي كانت تسود في جاهلية جزيرة العرب. وعندما تعايش المسلمون مع اليهود والنصارى، قاموا بتطبيق مبادئ المساواة وأداء الحقوق بين جميع الأديان والأعراق.
وقد ضم الإسلام تحت جناحه الصحابة من مختلف الأعراق والقبائل، وأزال كل الفوارق التي تقوم على أساس العرق أو اللون. وجمع الناس تحت راية الإسلام على أساس الولاء للدين والعقيدة. وهكذا تعتبر القيم الإسلامية تعارفًا وتعاونًا يستند إلى التقوى وإزالة الفوارق العرقية والقومية.