يؤكد المحقق الدكتور محمد الدروبي أستاذ الأدب والتراث بجامعة آل البيت الأردنية، في تقديمه لـ"المقامة البخشيشية" لأحمد فارس الشدياق التي قام بتحقيقها، أنَّ الأدب العربي الموروث غني بنتاجاته السامقة، ونصوصه الشعرية والنثرية الفريدة، التي تشي بملكات الأدباء، وقدراتهم الإبداعية، ووعيهم الفكري والفني.
ويضيف أنَّ الفن المقامي العربي شارك منذ القرن الرابع الهجري في رفد خزانة الأدب العربي بالنصوص الأدبية المسجّعة التي تنهض علامةً دالةً على مسيرة القص والسرد عند العرب. ورغم وفرة النصوص المقامية، وتنوع بيئاتها، وتعدد مساراتها الفنية، لم يحرز الشهرة سوى أعدادٍ قليلة من نصوص المقامات، أقبل الباحثون على قراءتها ودرسها وتحليلها وفحص رؤاها الفكرية وجمالياتها التعبيرية وما تضمنته من قيم نقدية وفنية.
ويذهب الدروبي إلى أنَّ أحمد فارس الشدياق كان ممن خَطوا بالفن القصصي خطواتٍ إلى الأمام؛ إذ "استطاع أن يحدث بعض تطوراتٍ في مسيرة الفن المقامي الموروث، نافخاً في بعض جوانبه، وباعثاً فيه أرواحاً عصريةً جديدة".
وتعد المقامة البخشيشية -وفقاً للباحث- علامةً فارقةً في مقامات الشدياق، وتمثل طوراً ناضجاً من أطوار المقامة في الأدب العربي في عصوره الأخيرة؛ إذ "حققت أصالةً فنية، وجاءت عملاً مميزاً في موضوعه وبنائه، وانضمت على قيمةٍ تصويريةٍ نقديةٍ اجتماعيةٍ واضحة، وانضوت على إشاراتٍ فكريةٍ عميقة، ومستوى متقدمٍ من السرد مكتمل العناصر".
وعني الدروبي بهذه المقامة تحقيقاً وتوثيقاً وقراءةً ودراسةً وتحليلاً؛ وشجعه على ذلك أن مضامينها الفكرية والأدبية والنقدية ما تزال حاضرةً بقوةٍ في المجتمع المعاصر، رغم انقضاء ما يربو على مئةٍ وخمسين عاماً منذ إنشائها ونشرها في جريدة "الجوائب" التي كان يصدرها الشدياق بالعربية في مدينة إستانبول.
وبحسب الدروبي، فإنَّ التكاليف الاجتماعية المرهقة التي عرض لها الشدياق ناقداً، تضاعفَ حضورها، وتعددت أنساقها، وأمست نظاماً اجتماعيّاً صارماً لا يقدر أحدٌ على كسره. وفضلاً عن ذلك، "ما برحت كثيرٌ من البيوت تئن من مشكلاتها الأسرية، وشقاقاتها الزوجية، حتى أمسى التنافر وعدم الوفاق بين الرجل والمرأة آخذاً بحياة كثيرٍ من الأسر في هذا الزمان. أما الرشاوى والبراطيل التي ذاق بطلُ المقامة عذاباتها، فهي اليوم سمة العصر الذي فسدت فيه منظومة الأخلاق الوظيفية والإدارية، وأمسى تقديم المال الحرام سبيلاً سائغةً إلى الحصول على الحقوق الراتبة والخدمات الأساسية".
انبنى معمار الكتاب الصادر عن دار خطوط وظلال بالأردن، على قسمين رئيسين، هما: قسم الدراسة والتحليل، وقسم التوثيق والتحقيق. وجاء القسم الأول في تمهيدٍ وثلاثة فصول، استجلى التمهيد تاريخ البخشيش وثقافته حول العالم، مقدماً إيجازاً عن جذور عادة الإكرامية، وتاريخها العالـمي، وما يحيط بهذه العادة من سلوكاتٍ ترقى أن تكون ثقافةً عالـميةً.
واسترسل الفصل الأول في دراسة الفن المقامي عند الشدياق، وما قدمه لـهذا الفن من أفكارٍ تجديدية في المضامين والأساليب. ومضى الفصل في تناول عطاءات الشدياق المقامية، معرِّفاً بمقاماته الست التي أمكن الوقوف عليها، ومما حمله إلينا كتابه "الساق على الساق"، وجريدته السيارة "الجوائب".
واختص الفصل الثاني بدراسة المضامين التي اشتغل عليها الشدياق في المقامة البخشيشية، وهو يتشكل من أربعة محاور، عرض أولها نقداً للمكونات الاجتماعية (أصحاب وسائل النقل، وندل المطاعم، والتجار، والزوج، والزوجة، ومجتمع الجيران)، وقدم ثانيها نقداً للسلوكات الاجتماعية، لا سيما (البخشيش) والرشوة، والعادات والمناسبات الدارجة في المجتمع. وساق ثالثها مظاهر منوعةً من الانحطاط الخلقي المجتمعي. وانتهى المحور الرابع في هذا الفصل إلى تصوير طائفة من المظاهر الحضارية والملامح الثقافية في مجتمع الشدياق.
ودرسَ الفصل الثالث التشكلات الفنية وجماليات التعبير في المقامة، وتضمن سبعة محاور، هي: العناصر القصصية في المقامة، وبناؤها، وروافدها الثقافية، واستراتيجياتها الحجاجية، وأساليب السخرية فيها، ولغتها، وتوظيف المحسنات البديعية فيها.
وضم القسم الثاني من الكتاب عدداً من المحاور التوثيقية التي تتناول المقامة البخشيشية، وهي تدور حول: تحقيق عنوان المقامة، ودراسة أصوله والتأثيل له، وتحديد تاريخ إنشاء النص، ثم الحديث عن نشراته السابقة، ونقدها وتمحيصها بعين الإنصاف، وصولاً إلى الحديث عن منهج إخراج النص والخطوات المنهجية المتبعة في تقديمه تقديماً علميّاً أميناً. كما تضمن هذا القسم نص المقامة محققاً وفق الأصول العلمية.