"عندما وصلت إلى نيويورك، كنت أخاف من كل شيء، وكان يجرحني أني ضعيفة ومنكسرة أمام نفسي المشوَّهة داخلي، لذا هزمتني المدينة القاسية، وهزمني الناس الذين لا أعرف لغتهم، وهزمتني الشوارع التي كنت أتشرَّد فيها لساعات، وهزمتني ليالي الصقيع الطويلة، وهزمتني الحيرة بيني وبينه، وهزمني الخوف على مستقبل الصغار".
عندما تشتعل الحرب داخل الوطن فيفر من استطاع من أهلها أن يفر، فيعلق في أول مكان يمكنه اللجوء إليه، فيشعر بالغربة حتى لو كان في أفضل بلد في العالم، فيكفي أنها ليست وطنه، ولو أضفنا إلى الشعور بالاغتراب قسوة الظروف والبعد عن الأهل والوطن فيكون الناتج نفسيات مدمَّرة، وأشخاصًا بلا مستقر.
وتحول الأمر إلى سؤال كبير يدور في أذهان النازحين جميعًا، ذكرته نجلاء العمري على لسان السيدة العجوز والدة ميساء، إحدى بطلات الرواية:
"تركنا بيوتنا وأهلنا وأولادنا وجيراننا وكل شيء، والآن ها نحن نازحون ولاجئون في كل مكان، ولا ندري أيَّ أرض ستقبلنا!".
تعالج الكاتبة الروائية اليمنية نجلاء العمري في روايتها "نساء هاربات" الصادرة حديثا عن "الآن ناشرون وموزعون" في الأردن في 128 صفحة من القطع المتوسط، أزمة الحرب المستعرة في اليمن، والتي كانت سببًا في فرار الكثيرين من أهل اليمن خارج حدود البلاد، واختارت لروايتها عددًا من الشخصيات النسائية التي تحمل كلٌّ منهن على كاهلها أزمتها الخاصة، والتي تعد صورة للحالة العامة في اليمن، فما عائدة سوى امرأة يمنية تحلم بالعودة إلى صنعاء، وتكابد من أجل الاستمرار في الحياة خارجها، وإن كان يتضح من خلال سردها لمعاناتها في أمريكا كم يتوهم الناس أن أمريكا بلد الأحلام، ولكنها في الواقع ليست كذلك، حتى إن فكرة الهروب بعيدًا عنها تخايل أحلام البطلات الثلاث في الوقت نفسه، فيقررن اللجوء إلى كندا، ولكن هناك تخوفًا مستمرًّا من أن تظل عائدة وسارة وميساء وحياة، وغيرهن الكثيرات، عالقات دون إقامة شرعية، أيًّا كان اسم البلد الذي سيستقرون فيه مثلما جاء على لسان سارة، لسان إحدى بطلات الرواية:
"الذي أعرفه تمامًا أنه سيكون علينا إعادة صياغة علاقتنا بكل شيء حتى نستطيع أن نألف الأشياء وتألفنا، كما أنني كنت أخشى أننا بهذه المحاولة نقوم بتغيير البلد الذي سنعلق فيه لاحقًا لا غير!".
وكأن الحياة خارج الوطن ما هي إلا موت مؤجل!
جاءت الرواية في أربعة أجزاء يحمل كل جزء عنوانًا منفصلًا، لكن الأحداث تأتي متضافرة ومتكاملة، إذ جاء الفصل الأول بعنوان "عائدة"، وهي إحدى بطلات الرواية، ثم جاء الجزء الثاني بعنوان "سارة"، والتي تتحدث عن تجربتها بداخل اليمن ثم خارجه، فتشير إلى تجربة زواجها الفاشلة بسبب أنانية الزوج وعدم إيمانه الكامل بموهبتها، وجاء الجزء الثالث تحت عنوان "الصديقتان" وإن جاء تخوف سارة في جملة ترد بها على حفيد السيدة التي ترافقها كجليسة: "أثارته جملتي قائلًا: نعم الجميع يأتي هنا حاملًا معه خيالات لا أساس لها من الصحة، أمريكا، الحلم الأمريكي".
وجاء الجزء تحت عنوان "الهروب"، ويأتي الهروب عنوانًا على الرغبة الجماعية التي فشت في عقول البطلات للفرار من أمريكا إلى كندا، ويعد هذا الهروب هو كلمة السر التي التففن كلهن حولها، مقررات التنفيذ على وجه العجلة.
ومن الجدير ذكره أن نجلاء العمري أديبة وكاتبة يمنية. صدر لها: – «أوجاع بنكهة اللیمون»، قصص، 2001. – «قلبك یا صدیقي»، قصص، 2007. – «ذاكرة لا تشیخ»، رواية، نالت المرتبة الأولى بجائزة العفیف، 2002. – «مراكب الضوء»، رواية، 2017.