كلما مر الوقت كلما تكشفت معلومات جديدة عن "طوفان الأقصى” تغير من الرؤيا العامة لما حدث ودوافعه ورد فعله.
كنت قد بدأت بالقول أن هذه العملية كانت راية خادعة بين إسرائيل وقيادات حماس في قطر ولكنها تغيرت لأن تعامل الكتائب على الأرض لم يكن متماشياً مع هذه الخطة وهذا أصاب الإسرائيليين بالجنون فتصرفوا بالوحشية التي بها قتلوا أعداداً مهولة من المدنيين الإسرائيليين واتهموها في حماس.
ولكن بعد الإستماع إلى الدكتور رفعت الأنصاري وهو القنصل المصري السابق لدي إسرائيل ، ويجيد العبرية ، ولديه رصيد كبير من الخبرة والمعلومات عن إسرائيل لدواعي وظيفته السابقة ولعلاقاته المختلفة ، كشف عن الأهداف الثلاثة التي كانت وراء هجوم "طوفان الأقصى” في يوم ٧ أكتوبر ٢٠٢٣. ولم تكن ، كما كنت تصورتها ، راية خادعة ، بل كانت خطة عسكرية منضبطة في التخطيط والتنفيذ أبهرت المحللين العسكريين في العالم.
وقبل هذا السرد لابد من القول أن إنتقاء إسم "طوفان الأقصى” لم يكن من فراغ ، بل إنتقائه له أسباب ودوافع محددة ، إذ أشار إلى ما يقوم به المتطرفين الدينيين من الإسرائيليين في محاولات إعادة بناء المعبد اليهودي مكان المسجد الأقصى ، ولذا فهذا الهجوم هو تعبير ليس فقط عن مشاعر وطنية فلسطينية في الدفاع عن أرضهم بل إنتشر إلى الدفاع عن أحد أهم الرموز الدينية الإسلامية وبذلك مس كل الشعوب والدول المسلمة بكل طوائفهم. وبذلك أوجد قاعدة عريضة من المساندين من قبل البدء.
أما الأهداف الثلاثة التي تكلم عنها الدكتور الأنصاري فكانت أهداف محدده: امنية ومخابراتية وعسكرية. وظهرت في الهجوم المحدد على ثلاث مناطق توجد بها الوحدات الخاصة الامنية والمخابراتية والعسكرية.
ما إستحدثته كتائب القسام في هذا الهجوم وأصاب الجيش الإسرائيلي بالحيرة في التعامل معه هو حيلة بسيطة أربكت الدفاعات الجوية المشهورة لإسرائيل والقبة الحديدة التي تتباهى بها. وكانت بإستخدامها وابل من الصواريخ -تقول حماس أنها وصلت إلى خمسة آلاف صاروخ ، وتقول إسرائيل أنها ثلاثة الآف فقط – لإرباك منظومة القبة الحديدة. ولكن لم تكن هذه فقط الحيلة التي أربكتهم ، بل إستخدام حماس للطوافات الجوية التي تُقِل فردان ليطيرا بشكل بدائي جداً ويصلا للمكان المستهدف عبر الجو دون أن تراهم أو تتعقبهم الدفاعات الجوية التي لم تصمم إلا لرؤية واستهداف الصواريخ والمسيرات. ولذا تمكنت حماس من الدخول إلى النقاط الثلاثة المستهدفة دون أن تكتشفها القوات الإسرائيلية سواء الأمنية أو المخابراتية أو حتى العسكرية. وذلك بعد أن دمروا الكاميرات وعطلوا أمهرة إستشعار الحركة في السياج الفاصل.
الهدف الأول كان المركز الأمني عند معبر إيرز التابع "لشين بيث” أو "الشباك” وهو جهاز الأمن العام لإسرائيل. وهذه الوحدة بالذات تضم كل المعلومات الخاصة بغزة ومن ضمنها أسماء العملاء الفلسطينيين المتعاونين مع شين بيث (شاباك) في غزة وفي الضفة الغربية. وقامت حماس بإقتحام هذه الوحدة الساعة ٦،٣٠ صباحاً وتم السيطرة على الموجودين بها وأخذ كل المعلومات التي لديها والحواسيب الإلكترونية والديسكات والأوراق الخاصة بكل المعلومات الموجودة بالوحدة ، وإختطاف إثنان من العاملين بها على هذه الحواسيب وعادوا بهم وكانو داخل قطاع غزة الساعة ٩،٣٠ صباحاً. وهذا فشلاً أمنياً كبيراً جداً بالنسبة لإسرائيل التي دائماً تتباهى بأنها هي أكثر الدول تقدماً في العالم في هذا المجال وكل ما يمت بصلة للمعلومات الأمنية والمخابراتية والعسكرية. وكانت هذه من ضمن كلمات نتنياهو المأثورة والتي طالما أعادها في أي محفل عالمي. وقامت حماس بتفريغ كل هذه المعلومات وبالتحقيق مع الضابطين المختطفين من الشين بيث وتوثيق كل هذا على أسطوانات مدمجه (ديسكات). وبذلك حصلت حماس على معلومات عن أسماء الفلسطينيين المتعاونين مع الشين بيث الإسرائيلي في غزة وفي الضفة الغربية. ونتج عن ذلك تصفية ٣ من المتعاونين مع الشين بيث في الضفة الغربية من أيام قليلة ماضية ، وإعلان حماس مسؤليتها عن تصفيتهم والسبب وراء ذلك.
وهنا لابد من التطرق إلى يحي السنوار ، الإسم الذي بدأ يتردد كثيراً الآن في غزة وخارج غزة.
يحي السنوار هو قائد غزاوي أمضى جزء كبير من عمره في سجون إسرائيل مما زاد من تمسكة بارضه ووطنيته. وكان هو المسؤول عن تصفية العملاء الذين يتعاونون مع إسرائيل وقبض عليه بعد العملية الرابعة التي قام بها. وحاكمته إسرائيل محاكمة عسكرية وحكم عليه بالسجن ٤٢٧ سنة. ويبدو أنه لم يهدر سنين سجنه هباءً ، بل تعلم العبرية وإصبح يتكلمها بطلاقة وفي نفس الوقت خطط ورتب لما يمكن عمله لإحياء القضية الفلسطينية مرة أخرى لتتصدر الأخبار العالمية وتعود مرة أخرى لتؤرق الضمير العالمي. بعد إطلاق سراحة في عملية تبادل الأسير جلعاد شليط بأكثر من الف سجين فلسطيني في ٢٠١١ ، ومنذ ذلك الوقت وهو مختفى من أنظار الإسرائيليين. ويبدو أنه ظل طوال هذا الوقت يخطط ويدرب ويبني "حماس” الجديدة.
الهدف الثاني من الثلاثة أهداف لهجمة "طوفان الأقصى” في يوم ٧ إكتوبر كان مقر الوحدة ٨٢٠٠ وهي المسماه بذراع إسرائيل الإلكتروني في قاعدة أوريم العسكرية غرب صحراء النقب.
وهذه الوحدة هي المركز الأساسي لإسرائيل للتجسس السيبراني أي على الكومبيوترات في العالم كله وإختراق المعلومات. لكنها متخصصة في التجسس على مواقع التواصل الإجتماعي وعلى الإتصالات في غزة ومصر والأردن والبحر الأحمر وإيران. ولديها كومبيوترات متطورة جداً ويمكنها رصد ملايين الرسائل للوصول لتلك التي بها معلومات إستخباراتية عبر مليارات الكلمات ذات الدلالات. ولا يسبق إسرائيل في هذا المجال من التنصت إلا أمريكا. وكانت أعمال هذه الوحدة إعتراض كل المكالمات في هذه الدول ورصد القطع البحرية وتحركاتها والتنصت على الكومبيوترات الشخصية ورصد إتصالات الأقمار الصناعية والتشويش على البعض منها ، وتحليل كل هذه المعلومات المستخلصة لنقلها إلى "الموساد” وهي المختصة بالمخابرات الخارجية و”أمان” المختصة بالمخابرات الحربية. وهي الوحدة التي إخترقت إيران سيبرانياً وحددت أسماء وأماكن العلماء النوويين الإيرانيين الذين إغتالت عدد كبير منهم. وكان لديها قوائم باسماء كل العملاء من كل الجنسيات داخل إيران.
دخلت حماس في ٧ أكتوبر قاعدة أوريم وإقتحمت وحدة ٨٢٠٠ وأسرت الضابط والمهندس العاملين بها وإستولت على كافة الكومبيوترات والديسكات والأرشيف الإلكتروني وكل اماكن التخزين للمعلومات الإستخباراتية والوثائق والمستندات الورقية والإلكترونية وعادت بها إلى غزة. وهناك تم التحقيق مع الإسرى وتسجيل كل أقوالهم على ديسكات وتم تحليل المعلومات وكل ذلك في الساعات الأولى من نفس اليوم.
نجحت حماس في إخراج كل المعلومات التي حصلت عليها إلى خارج القطاع وتم إجتماع في لبنان يوم ١٣ أكتوبر بين قيادات من حماس في الخارج وقيادات من حزب الله وقيادات من الحرس الثوري الإيراني وتم تسليمهم المعلومات التي تخصهم مقابل مساعدتهم الآن ومستقبلاً وعرفاناً بالجميل الذي كانوا قد قدموه لحماس في الإعداد لعملية طوفان الأقصى بالرغم من عدم علم حزب الله ولا إيران بموعد او حجم أو أهداف العملية. وبالرغم من قوة الوحدة ٨٢٠٠ التجسسية إلا أنها فشلت في كشف مخطط حماس لطوفان الأقصى. وهذا لأن مخططي وقيادات هذه العملية إبتعدوا نهائياً عن إستخدام التكنولوجيا في التخطيط والتنفيذ والإتصال في هذه العملية. وتمت عملية الهجوم من حماس على هذه الوحدة بناءاً على معلومات جمعتها حماس لا أحد يعرف كيف حتى اليوم وهذا أكبر دليل على إخفاق هذه الوحدة المفروض أنها من النخبة المخابراتية حتى من حماية نفسها. وبذلك نرى تقصير مخابراتي بعد التقصير الأمني باختراق الشين بيث.
أما الهدف الثالث لحماس يوم ٧ أكتوبر كان إقتحام قاعدة عسكرية (نيتسريم) وهي مقر قيادة الجيش الإسرائيلي في الجبهة الجنوبية وكان بها أعداداً محدودة من القوات وفي حالة إسترخاء لدواعي إجازة العيد. ولم يعلموا أن إتصالاتهم بقياداتهم قد تم قطعها بإقتحام سيبراني قبل الإقتحام من حماس بدقائق. وتم التعامل مع جنود القعدة وتم تصفية الكثير منهم وتم أسر الباقي وعددهم ما بين ٢٠ – ٢٥ وهم يمثلون النسبة الأكبر من الأسري العسكريين الذي يتردد أنهم يفوقوا الثلاثين أسيراً. ويتردد أن منهم ٣ ضباط من المخابرات الحربية أمان. وصادرت حماس كافة الخرائط والوثائق والمعلومات العسكرية الموجودة بهذه الوحدة والتي تضمنت الخطة العسكرية الموضوعة في حال صدور الأوامر بقيام بعملية عسكرية لغزو قطاع غزة ، وكله على الكومبيوترات والديسكات داخل القاعدة. وعاد بكل هذا الكنز المعلوماتي مقاتلي حماس إلى غزة. وهذا تقصير وفشل عسكري ، بعد التقصير والفشل الإمني والمخابراتي السابقين.
خطة الهجوم على المستوطنات وترويع المستوطنين وخطفهم كانت للتمويه علي العمليات الأمنية والمخابراتية والعسكرية التي قامت بها حماس. كما حدث عندما أطلقت حماس الصواريخ لتشتيت منظومة الدفاع الجوي بالصواريخ عن الطوافات التي هي فعلاً أساس الهجمة.
ولم تدرك إسرائيل حجم الكارثة التي وقعت فيها إلا في مساء نفس اليوم عندما وصلت أخبار الإقتحامات الأمنية والمخابراتية والعسكرية التي قامت بها حماس وكم المعلومات الخطيرة التي استولت عليها من هذه المواقع.
وكان ذلك هو أساس الشراسة في رد إسرائيل لأنها لم تخترق فقط عبر السياج الأمني بل إخترقت في أكثر الأماكن التي كانت تتفاخر بريادتها فيها وهي التأمين المعلوماتي والمخابراتي السيبراني والعسكري. وكانت هذه لطمة عالمية شديدة لكبرياء إسرائيل والذي كان يمثله نتنياهو في كل المجالات الدولية ويتباهى بكم البرامج السيبرانية الدفاعية أو التنصتية التي تبيعها إسرائيل للعالم ولا يضاهيها أحداً فيها.
أما شراستها في الإنتقام فلم ينصّب على حماس فقط ، بل إنصّب على الشعب في غزة الذي إعتبرته إسرائيل أنه البيئة الحاضنة والحامية لحماس ، ولذا فهو بنفس الذنب الذي إقترفته حماس في حقها. ولأن بعد قيام حماس بهذه العملية دخلت باقي الوحدات وبعض الأهالي إلى المستوطنات وقاموا بإختطاف المدنيين.