لعل دافع قوي دفعني إلى الكتابة عن هذا الموضوع ، هذا الدافع نزعة التقليد التي انتشرت بصورة فجة واستشرى خطرها لا أقول في بلدنا مصر فقط ، بل في جميع البلدان العربية ، ولا أكون مبالغا إذا ما ذهبت بعيدا وقلت في العالم بأسره.
تقليد أعمى في كل صوره ، فبات الصغير مقلدا الكبير ، وأصبح الشرقي صاحب الدين والعادات والتقاليد مقلدا للغرب بكل انفتاحاته وبكل ايباحياته ، تقليد بدعوى المعاصرة والمواكبة والمدنية الحديثة ، قصات شعر ما أنزل الله بها من سلطان -كابوريا ، قوس قزح ، وفلفلة الشعر وخلافه - وتسريحات مقززة تشمئز منها النفوس بل تمقتها العيون ، بل وقد يصاب المرء عندما يرى مثل هذه الأشياء بالغثيان.
ناهيك عن أنواع الملبوسات -حدث ولا حرج - بنطال مقطع وآخر مرقع ، وجيبة كاسية عارية ، وإذا ما تحدثت مع هؤلاء وأمثالهم تجد الرد سريعا ، الموضة يا دقة قديمة ، الحرية الشخصية ، وعلى الفور يتم اتهامنا بالتخلف والرجعية وأننا لسنا معاصرين لسنا (مودرن).
أقول إن كان ذلك كذلك فمرحبا بهذه الرجعية ،مرحبا بهذه الرجعية التى نحافظ من خلالها على هويتنا.
من فضلكم أعيروني انتباهكم ، هل معنى أن الممثل الفلاني ولعب الكرة الفلاني والمغني العلاني يفعل ذلك أقوم بتقليده تقليدا أعمي.
أين عقولكم ، من الذي سلبها منكم ، من الذي قادكم إلى الوقوع في هذه الشراك الخادعة التي ستسحقكم وستمحو هويتكم وتجعلكم تابعين خاضعين خانعين مقلدين.
ما شأننا وشأن الغرب الأوربي ، حتى إذا أردنا تقليدهم لم لا نقلدهم في الجوانب الإيجابية.
لم لا نقلدهم في النهضة العلمية التي استقوا أصولها من عندنا ، لم لا نقلدهم في التقدم العلمي والتقني وثورة المعلومات.
لماذا أصبحنا متلقين فقط.
لماذا لا يكون لنا موقف ورؤية نقدية ترتقي بشخصياتنا وتنقلنا من حالة الركود والاسترخاء الفكري إلى حالة ثورة فكرية ، ثورة تصحيح ، تصحيح للعقول التي خربت أو أوشكت على الخراب نتيجة هذا التقليد.
السؤال لماذا بدأت بهذا الكلام عن التقليد المادي
الإجابة بسيطة واضحة ، لأن ذلك حالنا الذي صرنا إليه ، وغزى بيوتنا وشوارعنا ، ومدارسنا وجامعاتنا.
وصارت إليه أمتنا العربية ، انغماس بالكلية في اللهو والترف ، حفلات راقصة للصباح يدفع في تذاكرها آلاف الجنيهات ، والشعوب حتى لا تجد قوت يومها ، أليس هذا الأمر جد خطير ، وينبغي على كل ذي عقل أن يتوقف عنده ، بل وينبغي على كل صاحب قلم نزيه حر أن يقول كلمته.
كفانا تقليد أعمى ، كفانا اغتراب -نحن من صنعناه- عن هويتنا وعن شرقيتنا وعن عروبتنا .
طبعا كعادتي أنا لا أعمم الأحكام ولا أطلقها على عواهنها، لكن هو حالنا وهي حالتنا التي وصلنا إليها ، والنتيجة الحتمية ، لا فكر ، لا ثقافة ، لا تنوير ، لا علم ، لا تعليم ، إنما هو تقليد ×تقليد=انسحاق للهوية وفقدان للذات والشخصانية.
كل مفكر مهموم بقضايا مجتمعه الذي يعيش فيه ، لابد أن يوظف فكره للنهوض بمجتمعه من كبوته حتى يعود سيرته الأولى.
إن جاز لي وبعد اجتهاد ، أن أقسم التقليد إلى نوعين:
أولهما ، التقليد المرذول وهذا ما تحدثت عنه وهو الذي يسلب المرء حريته وشخصيته ، هذه الحرية التي وهبها له الإله ، الحرية المسؤولة ، لا حرية الفوضى والعبث والعربدة (حرية اللا حرية).
فكيف أيها الإنسان الذي كرمك الله تعالى بنعمة العقل والإرادة ونعمة الدين تنقاد انقيادا أعمى لأن (س)، أو (ص)وجدته يفعل كذا وكذا ، تفعل مثله.
وجدنا الدين الإسلامي يدعو دعوة صريحة إلى بناء الشخصية الناقدة المفكرة المنكرة للتقليد (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آبائنا ، أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون)
فمن يقلد (أولئك كالأنعام بل هم أضل).
وثانيهما ، التقليد المحمود ، وهو التقليد الذي من الممكن أن نصفه بهذا الوصف ، لماذا ؟!، لأن الطفل من الممكن أن يقلد أباه أو أمه كأن يراهما يصليان فيصلي مثلهما ، أو تقليد التلميذ لأستاذه مثلا وهو يشرح الدرس ، أو يقلد رئيسه في العمل في الجوانب الإيجابية ، أو يقلد إمام وخطيب مسجد أو شاعر في الإلقاء ، وهذا مباح ولا مندوحة عنه ، أو يقلد مقرأ مثلا كالشيخ فلاني وغيره.
لكن سنقول عنه ممدوح ومحمود إذا كان لفترة دونما تقمص كامل لشخصية من نقلده ، وإلا سيصبح ذلك بمثابة ذوبان وانصهار لشخصيتك ولا تكون شخصية بناءه لها دور فاعل في المجتمع.
وهذا ما لمسته مع أستاذي رحمه الله تعالى ، إذ قلت له ذات مرة أريد أن أكون مثلك ، رد قائلا أنا لا أريد أن أكون مثلك ، قلت كيف قال لكل واحد شخصيته المستقلة ، خذ مني وطور نفسك وحقق ذاتك وابني فكرك النقدي .
ما أحوجنا ونحن الآن نسعى سعيا حثيثا نحو إحداث صحوة فكرية ، صحوة على كافة المستويات الأصعدة، ولا سيما المستويات العلمية والثقافية، والإجتماعية والإقتصادية ، صحوة تتناسب مع سعينا إلى بناء شخصية إنسانية مستقلة فعالية تفيد وطنها ، فكيف يحدث ذلك ونحن مغتربون عن ذواتنا ، واقعون في براثن التقليد الأعمى.
ومن ثم بات الأمر ملحا أن نعمل عقولنا ونحكمها في كل ما هو وافد إلينا ولابد أن تكون رؤيتنا النقدية واضحة وفكرنا الواعي الحر المستنير بعقولنا قائدا لنا ، فنحن ذوات مفكرة ، أبناء حضارات عريقة .
حقيق علينا أن نحافظ على هويتنا فنحن لسنا ناقلين ولا مقلدين ولا مسايرين النعل بالنعل والكتف بالكتف والخطوة بالخطوة ، ولنا في تراث أجدادنا من العلماء والأدباء والمفكرين والفلاسفة القدوة الحسنة.
فهل أتاكم نبأ الفارابي وابن سينا والغزالي صاحب رسالة أيها الولد التي ركزت على المنهج التربوي في بناء الشخصية غير التقليدية ، الشخصية الناقدة.
أم هل أتاكم نبأ ابن رشد في منهجه التربوي الذي علم من خلاله تلاميذه كيفية بناء الشخصية الناقدة المفكرة.
وكذلك الطهطاوي ومحمد عبده وأحمد لطفي السيد ، العقاد ، وعبد الله النديم ، وأمين الخولى ، ومحمد الغزالي ، وعبد الحليم محمود ، ومصطفى عبد الرازق ، ومحمود شلتوت ، والشعراوي ، وغيرهم كثير ، لم يكونوا يوما ناقلين أو مقلدين ، وإنما انفردوا بشخصياتهم فوصلت علومهم عنان السماء، وفهمتها العقول وآمنت بها القلوب ورقت لها الأفئدة.
أستاذ الفلسفة الإسلامية ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان