كثيرون منهم، ناضلوا من أجل نشر الوعي والديمقراطية في أوطان كانت محكومة بشكل استبدادي متفاوت الدرجات، عايشوا القهر السياسي وانعدام مجال الحريات، فركنوا إلى زاوية آمنة بعيدا عن إكراهات الحياة والاصطدام مع السلطة في كثير من الاحيان. ولا يمكن، في الوقت ذاته، إنكار الإسهام الفكري والحركي البارز للكثير منهم في زمن سبق ثورات الخراب العربي، وذلك في مسار حركة الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في المنطقة العربية.
خاض البعض منهم تجربة تأصيل بعض القضايا السياسية التي تثير حساسيات كبيرة، وحاول البعض الآخر تجنب الخوض فيها، مثل حرية الانتخابات ونزاهتها، وحرية مؤسّسات المجتمع المدني، وشكل الدولة الوطنية وأشكال أنظمة الحكم والعديد من القضايا التي بحاجة لفهمها وتدارسها في بيئتها العربية، للخروج بخلاصات تخدم البلاد والعباد.
القليل من المثقفين العرب من سلك الطريق الصحيح في فكره وإنتاجه، ولازم مواقفه التي دافع عنها وظل متمسكا بها، لكن الكثير منهم، عاد ليعانق الدولة العميقة ويمشي في دربها تجنبا لأي تشويش أو صراع محتمل. المثقف العربي سلك دروبا كثيرة وغير مواقعه في مناسبات كثيرة، فانقسمت النخبة المثقفة لتيارات عديدة وساقتها أمواج كثيرة إلى ضفاف شبه مهجورة، فغاب المثقف عن الواقع المعاش.
فهل أصيب المثقف العربي بخيبة أمل عميقة، جراء التحولات الكبيرة والمتسارعة التي شهدتها المنطقة، كان لها الوقع الكبير على الخيارات السياسية للكثيرين منهم، أم كان شاهدا على فترة الانحدار المدوي لمجتمعات كثيرة دون أن يستطيع حتى إبداء رأيه فيما يجري. إذ لا يمكن فصل تحول مواقفهم، عن مشهد الفتنة الذي يعيشه المجتمع بالكامل، والذي دفع بهم لتغيير جلدهم ليتماشى وطبيعة المرحلة.
عادة ما ترافق لحظات التحولات السياسية الكبرى، داخل المجتمع، انقساماتٌ عميقةٌ داخل هياكله ومكوناته، واختلافات بين النخب المختلفة، بشأن ما يحقق المصلحة الوطنية الكبرى. وهنا وفي هذا السياق، نتساءل، كيف يمكن لتوجّهات الشخصيات المثقفة أن تتغيّر وتتبدّل مع مرور الوقت، بحيث تتحوّل، في الكثير من الحالات، من مدافعين عن العدالة الاجتماعية والحرّيات والديمقراطية إلى ساكتين عن الحق ومساندين ومتأقلمين مع واقع اللاعدالة. فلماذا، شهدت النخب المثقفة العربية العديد من هذه الانعطافات في العقود الأخيرة وخصوصا في أعقاب انتكاسات ثورات الخراب العربي.
نواصل بالأفروآسيوية مسيرة المعرفة والسعي نحو تحقيق المجتمع المنشود ورفع منسوب النقاش حول كل القضايا التي تعني المجتمع المعاصر، بما يسهم في نشر معاني وقيم التسامح والمدنية والمسؤولية، وتعزيز ثقافة الحوار وأدواته، والحق في التعبير عن الرأي والفكر واحترام الفكر الآخر تجسيدا للثراء والتعدد الذي يميز مجتمعنا العربي الكبير.
نهدف من خلال ندواتنا الفكرية ومؤتمرنا العلمي القادم، إلى جمع شمل المثقفين والباحثين والحاملين لهم المجتمع وتطوير ثقافة الحوار والمساهمة في تبادل وتطوير مجالات العمل من أجل بناء مجتمع إنساني أفضل.
في ندوتنا ليوم الخميس 4 يناير، تطرقنا لإشكالية الثقافة والمثقف، واقعه، آماله وعلاقته بهموم المجتمع، نغوص في أسئلة عجزنا عن الإجابة عليها لتسارع النكبات والأزمات، نتساءل دوما عن دور المثقف في تدبير الوضعية. هل سيبقى وفيا لدوره في حراسة القيم والمثل أم يخضع دوما لإكراهات الواقع؟ هل لازال المثقف صوت المجتمع ولسان حاله؟ أي دور فعال ينتظره المجتمع من مثقفيه؟ هل يعود الضمير الحي للمجتمع، أم يعيش على مسافة مجالية من الشعب وزمانية من الأحداث؟ ويترك الساحة لسماسرة الثقافة ومحترفي زمن التفاهة.
حاولنا الحديث عن، المثقف ومفهوم الحرية، المثقف والوعي الجماعي، المثقف وإدارة الأزمات، المثقف والتعليم، المثقف والمؤسسات الثقافية، هل هي أداة للتنوير أم مؤسسات للواجهة فقط، المثقف والتكامل والتقارب بين الشعوب، كيف يمكن للمثقف المساهمة في التنمية المجتمعية، المثقف والممارسة الفاعلة، هل هو طلاق أم فقدان الأمل في التغيير، كيف يمكن للمثقف المساهمة في إنتاج الأفكار والمفاهيم، كيف يمكنه التأثير في صناعة القرار، هل يمكن إنشاء نخبة مثقفة مؤثرة فعلا وهل يدرك المثقف أن الزمن الآتي سيكون مختلفا بكل المقاييس وسيكون أكثر سرعة وأكثر شراسة، أسئلة عدة تراود كل مهتم بالشأن الثقافي والمجتمعي العربي.
للإجابة على جزء بسيط منها استضفنا، في مركز الدراسات الأفروآسيوية، ثلة من أخير ما أنجبته الساحة الفكرية العربية، أربعة من فرسان الكلمة والفكر التنويري المعاصر، نتفق معهم ونختلف معهم، لكننا ندعو دوما إلى فكر وسطي معتدل، والنقاش الحر واحترام الرأي والرأي الآخر، يغنينا اكثر ويقوينا.
حضر معنا الندوة كل من الدكاترة أسامة أبو طالب وعمادالدين العجيلي وكمال يونس. حضر الندوة أيضا الدكتور علي جاد مدير مركز الدراسات الأفروآسيوية والدكتور عبدالسلام الواحاتي نائب الرئيس للشؤون الإدارية. الندوة التي قدمها الكاتب الصحافي عبدالله العبادي مدير تحرير صحيفة الأفروآسيوية نيوز.