تحتفل المملكة الأردنية الهاشمية هذا العام باليوبيل الفضي للتسلم جلالة الملك عبد الله الثاني - حفظه الله ورعاه- لسلطاته الدستورية ، ففي السابع من شباط عام 1999م نودي بسمو الأمير عبد الله بن الحسين ملكاً على المملكة الأردنية الهاشمية خلفاً لوالده المغفور له جلالة الملك حسين بن طلال - رحمه الله - وحمل جلالته بذلك لقب الملك عبد الله الثاني بن الحسين ؛ لتدخل الأردن في عهده في مطلع الألفية الثالثة عهداً جديد يزخر بالبناء والحداثة ومواكبة ركب الحضارة الإنسانية ، إذ شهدت الأردن خلال الخمس والعشرين عاماً المنصرمة نهضة في كافة المجالات السياسية والعسكرية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية.
ومن هنا فأن احتفالات الشعب الأردني باليوبيل الفضي لجلالة الملك عبد الله الثاني تبلورت في اللقاءات الدورية التي يجريها جلالة الملك مع أبناء القبائل الأردنية اليوم ، ولا يعد هذا الأمر غريباً على جلالته المطلع على التاريخ والحضارة الأردنية منذ أقدم العصور ، إذ كان الأردن مهداً للقبائل العربية منذ العصرين البرونزي والحديدي واستمر الوجود القبلي في الأردن في العصرين اليوناني والروماني فبتتبع شكل الحياة الاجتماعية في الأردن نجد أن القبائل هي عصب الحياة في الشرق النهر ، وكانت البداية مع العرب المستعربة المنحدرة من نسل النبي اسماعيل بن إبراهيم - عليهما السلام - والتي تركز جزء كبير منها في شرق الأردن وفي بادية بلاد الشام ، إذ كان يطلق عليهم لقب الاسماعيليين أو الهاجريين وهذا ما ذكرته عنهم آيات كثيرة في العهد القديم من الكتاب المقدس إذ كانت هذه الشعوب تقيم في شرق الأردن وتتاجر بصمغ البلوط مع الفراعنة الذين كانوا يستخدمونه في التحنيط ، فكان للعرب المستعربة مكانة كبيرة في شرق الأردن في العصر البرونزي ، وفي العصر الحديدي ظهر ذكر العرب في الشرق الأردن مجدداً ما قصة الملك جنديبو العربي ملك مملكة قيدار الذي تحالف مع الآراميين في دمشق ومدهم بألف جمل لمحاربة الأشوريين في القرن التاسع قبل الميلاد.
واستمرت سيطرت القبائل العربية على شرق الأردن في العهدين اليوناني والروماني فقد خضعت الأردن للحكم اليوناني بعد اجتياح الاسكندر المقدوني بلاد الشام عام 333 ق . م ، وكانت الأردن مركزاً للتجارة اليونانية بعد تأسيسهم لاتحاد الديكابوليس ، فأصبحت الأردن تحت حكم القائد اليوناني سلوقس ، وفيما بعد تأسست مدينة فيلادلفيا نسبة إلى القائد اليوناني فيلادلفيوس على أنقاض ربة عمون عاصمة العمونيون ، وكانت القبائل العربية التي تسكن المنطقة محور الحياة التجارية من خلال النشاط التجاري الذي شهدته رابطة المدن العشرة .
وفي العهد الروماني بدأت هجرات جديدة للقبائل إلى شرق الأردن كان قوامها من العرب العاربة التي نزحت من جنوب الجزيرة العربية نتيجة العوامل المناخية التي أثرت على شبه الجزيرة العربية آنذاك ، فبدأت هذه الهجرات في القرون الميلادية الأولى وسكنت القبائل العربية القحطانية المناطق الممتدة من آيلة على ساحل البحر الأحمر حتى سهول حوران في الشمال ، وكانت تمتد على طول شرق الأردن ، ومن أوائل القبائل العربية التي وصلت إلى الشرق الأردن : قبيلة سليح القحطانية والتي استقرت بالبلقاء ، ثم تبعتها قبيلة لخم وقبيلة بني كلب التي امتد نفوذهما من الشمال الجزيرة العربية حتى البحر الميت ، كذلك قبيلة قضاعة التي استولت على مساحات واسعة من شرق الأردن تلاها هجرة قبيلة غسان التي كانت أقوى قبائل العرب في الشرق الأردن إضافة إلى قبائل تنوخ وبني عذرة وقبائل جذام وطيء وبهراء وبلي ؛ هذه القبائل التي كانت عماد الفتح العربي الإسلامي لبلاد الشام في القرن السابع الميلادي ، حيث تذكر المصادر التاريخية الإسلامية أن عدد أبناء قبائل شرق الأردن الذين انضموا للمسلمين في معركة اليرموك أكثر من عدد المسلمين أنفسهم ، وبذلك كانت هذه القبائل السبب الرئيسي في انتصار المسلمين في معركة اليرموك وفتح بلاد الشام .
وفي عهد الدولة الأموية كانت قبائل بلاد الشام من أوائل القبائل التي هبت لدرء الفتنة بين المسلمين ،إذ كان موقفها واضحاً من الأحداث التاريخية التي شهدتها المنطقة في نهايات عصر الخلاف الراشدة ومطلع العصر الأموي وبقيت القبائل المتركزة بين آيلة والكرك ومشارف بادية الشام على ولائها للدولة الأموية ، كما أن أعداد كبيرة من أبناء قبائل شرق الأردن انضموا لسلسلة الفتوحات التي قادها الأمويين ، كما شكلت هذه القبائل جناح عسكري مهم في بعثات الصوافي والشواتي التي كانت ترسلها الدولة الأموية سنوياً إلى ثغور الدولة البيزنطية .
وفي العصر العباسي حدثت نزاعات كبيرة بين القبائل القيسية واليمانية في بلاد الشام والعراق إلا أن قبائل شرق الأردن بقيت محافظة على الأمن القبلي في المنطقة ؛ لأنها كانت تقع على طريق التجارة والحج بين بلاد الشام والحجاز فكانت القبائل تحمي الطريق التجاري وقوافل الحج من أي اعتداءات خلال فترة الاضطرابات السياسية في مطلع العصر العباسي .
وفي القرن الحادي عشر الميلادي شهدت بلاد الشام صراع كبير بين الدولتين الفاطمية و السلجوقية فكانت قبائل شرق الأردن تنأى بنفسها عن هذا الصراع ؛ بسبب طبيعتها البدوية المعتمدة على التنقل والترحال حسب المواسم الزراعية بين حوران والشمال الجزيرة العربية كما أن اعتمادهم الاقتصادي كان قائم على بيع الفائض من منتجاتهم في أسواق دمشق لذلك لم يدخلوا في أي صراع سياسي خارجي يؤثر على حياتهم الاجتماعية المستقرة .
أما في عهد مملكة بيت المقدس اللاتينية فلم تخضع قبائل شرق الأردن لحكم الفرنجة بل بقوا على صراع مستمر معهم ، ثم انضمت هذه القبائل إلى حلف الأيوبيين في تحرير شرق الأردن من الوجود الفرنجي وكان على رأسهم قبيلة ربيعة التي تحالفت مع صلاح الدين من أجل تحرير الشوبك والكرك من قبضة الفرنجة .
وفي العصر المملوكي شهدت شبه الجزيرة العربية موجة هجرات جديدة للقبائل ويعود ذلك إلى كثرة الصراعات بين القبائل مع محدودية الموارد ، وتمثل ذلك بتوسع قبائل بني صخر وشمر وعنزة إلى شرق الأردن ، وما تلا ذلك من النزاعات بينهم وبين الدولة المملوكية .
وفي العصر العثماني رفضت قبائل شرق الأردن والخضوع لحكم الدولة العثمانية خاصة وأن شرق الأردن قد شهد تهميشاً واضحاً من قبل العثمانيين ، مع وضوح ملامح توزيع القبائل في شرق الأردن فكانت قبائل البلقاء تسيطر على الظهير الغربي المحاذي لحوض وادي الأردن كقبائل : بني عباد والعدوان إضافة إلى قبائل الدعجة والعجارمة والحديد وغيرهم ، كما كانت قبيلة بني حسن تسيطر بشكل كبير على الأراضي الممتدة على طول نهر الزرقاء من عين غزال في عمان حتى جرش ، وفي الجنوب كانت قبيلة الحويطات من أقوى القبائل التي سيطرت على جنوب الأردن وشمال الجزيرة العربية إضافة إلى قبائل الحجايا وبني عطية وغيرهم ، كذلك قبلية بني حميدة في مأدبا، أما قبيلة بني صخر التي كانت تسيطر على المناطق الممتدة من شرق عمان حتى مأدبا وصولاً في الشمال إلى حدود سيل الزرقاء ووادي السرحان شرقاً فكانت تركزاتهم تقوم حول الخرب الأثرية مما كان يشكل تهديد واضح للوجود العثماني في شرق الأردن ، إضافة لقبيلة بني معروف في الأزرق التي كانت قلعتهم قاعدة لانطلاق الهجمات المستمرة ضد العثمانيين .
وفي شمال الأردن كان هناك تحالف كبير بين قبائل السردية والفحيلي والسرحان وقبال الجبل للحد من السطوة العثمانية ، كما كانت قبائل بني خالد محور تهديد دائم لهم ، ولا يمكن نسيان دور قبائل الطفيلة والكرك وقبائل الشمال في عجلون وأربد وجرش ، إذ يذكر تاريخ الدولة العثمانية حدوث مجموعة من الثورات التي قادتها هذه القبائل ضد الوجود العثماني في المنطقة ، وكانت زهرة هذه الثورات الثورة العربية الكبرى عام 1916م ، التي وحدت فيها قبائل شرق الأردن كلمتها ضد الوجود العثماني فكانت القبائل هي عماد جيش الثورة الذي من خلاله استطاع الأردنيين تحرير أراضي شرق الأردن من العثمانيين ، وصولاً إلى تحقيق حلمهم بوجود وطن موحد يضمهم ويحميهم وكان ذلك واضحاً من خلال استقبال زعماء القبائل لسمو الامير عبد الله الأول - رحمه الله - عندما وصل شرق الأردن في عام 1920 م ، وبقيت هذه القبائل تمد سمو الأمير عبد الله بالرؤية الحكيمة التي تبلورت بإعلان إمارة شرق الأردن في الحادي عشر من نيسان عام 1921 م ، وبقيت هذه القبائل على عهدها مع سمو الأمير عبد الله الأول إذ خاضت مجموعة من المعارك ضد غزو قبائل شمال الجزيرة العربية والتي استمرت حتى ثلاثينيات القرن المنصرم ، كما أن هذه القبائل شكلت قاعدة الحياة السياسية في الأردن من خلال تأليف المجلس التشريعي الذي كان يضم عدداً من أبناء القبائل ، إضافة إلى السلطة القضائية المتمثلة بالقضاء العشائري عندما سمى الديوان الأميري قضاة من القبائل للنظر في القضايا العشائرية في عهد إمارة شرق الأردن.
وعندما استقلت المملكة الأردنية الهاشمية في الخامس والعشرين من أيار عام 1946 م كانت القبائل الأردنية مرحبة بتسمية جلالة الملك عبد الله الأول كملك دستوري لشرق الأردن ، إذ تزخر الأوراق الهاشمية لجلالة الملك عبد الله الأول بالعشرات من برقيات التهنئة الموجهة لجلالته من قبائل شرق الأردن التي كانت تحمل في طياتها اسمى آيات التبريك والمبايعة للأسرة الهاشمية .
ومنذ أن تأسست المملكة الأردنية الهاشمية حمل أبناء القبائل في الأردن على عاتقهم الهم القومي ؛ فقد شارك أبناء الجيش العربي الذي كان قوامه من القبائل في الحروب العربية - الإسرائيلية إذ تضج الوثائق الهاشمية والصحف الأردنية بأسماء مئات الشهداء من أبناء القبائل الذين استشهدوا دفاعاً عن فلسطين في حروب عام 1948 م و 1967 م ، ومما يزيد القبائل الأردنية فخراً أنها استطاعت بقيادة جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال بتحقيق أول نصر مؤزر ضد اليهود في معركة الكرامة عام 1968 م ، هذا النصر الذي منع من توسع اليهود إلى شرق الأردن بسبب ما قدمته القبائل الأردنية من دماء وأرواح من أجل رد العدوان عن دولتهم الفتية ، وفي حرب عام 1973 م تذكر الوثائق عشرات الشهداء من أبناء القبائل الذين حاربوا على جبهة الجولان فكان لهم شرف الشهادة هناك .
ومع استقرار الحياة السياسية في الأردن في سبعينيات القرن الماضي لعبت القبائل دور رئيسي في نشاط الحركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، إذ يضيق المقام بذكر رجالات القبائل الذين أخذوا على عاتقهم نهضة الأردن المعاصر تحت الراية الهاشمية ، وبقي هذا الولاء مستمر على مدار 47 عاماً مزدهرة في عهد جلالة الملك الحسين ، وبقيت هذه القبائل على ولائها المعهود للأسرة الهاشمية عندما تجددت البيعة لجلالة الملك عبد الله الثاني في عام 1999 م ، وما زالت مستمرة حتى يومنا هذا فقد شهد الأردن في العام المنصرم احتفالات القبائل الأردنية بزفاف ولي العهد الأمير الحسين بن عبد الله الذي كان احتفالاً أبهج جميع أطياف الشعب الأردني ، ونشهد اليوم احتفالات أبناء القبائل باليوبيل الفضي لجلالة الملك عبد الله الثاني ، هذه الاشراقة الحقيقية التي تقودنا إلى بيان الصلة الوثيقة بين الأسرة الهاشمية وباقي قبائل الأردن العظيم ، فلا يمكن أن تقوم أركان الأردن العزيز القوي المصان إلا من خلال قبائله ، وعلى رأسها بني هاشم بقيادة جلالة الملك عبد الله الثاني وولي عهده الآمين الأمير الحسين حفظهما الله .