زرت قبل سنوات طويلة منطقة البحر الجنوبي في ولاية ساوث ويلز في استراليا والتي تكثر فيها القرى الجميلة المبعثرة هنا وهناك واسترحت في مكان فيه الاشجار المطّلة مباشرة على البحر ولم اتوقع ان اصدف أحد يشبهني من ابناء جلدتي في منطقة نائية جدا واذا برجل كهل يتجول لوحده بين الأشجار وما إن رأني حتى ابتسم واسعاً وبدأ يتكلم معي فأصغيت له جيداً لأن كبار السن في استراليا يعانون من ألم العزلة المفرطة والإنطوء النفسي الذي مرده غياب العائلة في حياتهم فقد هرّم الكبار بدون روابط الزواج أو انجبوا ابناء العقوق إذ لا احد يهتم للأخر بسبب تأسيس روابط تنامت على أوضاع الخطيئة في معظم مراحل حياتهم مما نتج عنه الجفاء والعزلة وفقدان السعادة!. بعد حديث طويل فصّل الرجل المسن مما هو فيه من المعاناة والمرض وإختفاء الأصدقاء من حوله لكنه فجأة تحول حديثه للسؤال: أنت من اين وطن ؟ فأجبته وطني إسمه الأردن وما إن سمعني حتى بدأ يتكلم عن براعة الطبيب الأردني الذي يعالجه في المنطقة النائية!!.
ما أعلمه جيداً بأن الأطباء وأهل الاختصاص في استراليا المهاجرين من الأردن عدد تجاوز المئات تاركين إضاءات وبصمات محمودة في حقول تخصصاتهم ونبلل تعاملهم. ومن هؤلاء الأخيار الدكتور درويش الخواجا احد الجهابذة الكبار في طب وجراحة الأعصاب الدماغ على مستوى العالم الذي يحمل الجنسية الاسترالية منذ أكثر من عقدين ويعتبر من اشهر الجراحين على مستوى العالم وما يبهرك ان ترى سيدة أمضت ما يزيد عن عشرة أعوام جالسة على كرسي متحرك إلى أن وجدت ضالتها عند هذا الطبيب الإنسان الذي اجرى لها عملية نوعية لتعود تمشي على أرجلها بين اولادها وعائلتها بعد زمن من الانكسار و الحزن الطويل ومن اعجب ما أنجزه هذا العبقري ازالة الأورام السرطانية من النخاع الشوكيّ داخل العمود الفقري بكل جدارة وما زال مرضاه يمشون في حياتهم بعد الشفاء واجتياز المشي على حواف الموت!.
لقد ولد الدكتور درويش الخواجا في عاصمتنا الحبيبة عمان قبل خمسة عقود وكان معه رقم وطني أردني ودفتر عائلة ايضاً تلك الوثيقة التي يقلبّها أولاده عندما يريدون السفر الى عمان كأنه برهان هويتهم وتاريخهم ... لكن والدهم متعود كل خمس سنوات ان يجدد جوازات السفر من السفارة في استراليا او أثناء زيارته لوطنه في مواسم العطل ...إلى أن ظهر ما لم يتوقعه في حياته ...بعد تقدمه منذ عشرة سنوات بطلب تجديد جواز سفر تم رفض طلبه من دائرة الاحوال المدنية بحجة انه ليس أردنيا !! وعللّ القرار المبهّم بأن الدكتور درويش ينطبق عليه قرار فك الارتباط القانوني مع الضفة الغربية التي لم يزرها مطلقا في حياته وقد شمل هذا القرار المئات من الناس وهو أمر سيادي لا نقاش فيه ، لكن سحب رقمه الوطني يعنى نزع جنسيته الأردنية ولا يجوز له امتلاك اية وثيقة أردنية اخرى.. الوثائق الأردنية بالنسبة لهذا الطبيب الانسان قضية وجّد وإنتماء وعشق لتراب الأردن الذي ولد فيه وليس جوازا للسفر للتنقل في مطارات العالم.
لقد فسر القرار ومبرراته لكن يبدو أن حيثيات القرار شمل الدكتور درويش بطريقة غلب عليها عدم الانصاف أتصور بانه بدأ من موظف بنى قراره على الملفات القديمة غير المكتملة ورمى الحجر ببئر الماء العميق! هذا الطبيب يدخل عمان بجوازه الاسترالي ويمضى من وقت إجازته ووقته الدوران والمشي بين مكاتب الدوائر الحكومية خلال عشرة أعوام والجميع يوعد بحل معضلة الرقم الوطني لكن كل الاحاديث في مهب الريح والحديث عقيم سقيم ليس فيه فائدة! ويعود الطبيب القدير إلى استراليا في كل عام ولون وجهه فيه السوّاد وخيبة الأمل وقهر دفين ملء عينيه ولا لديه إيجابات يقلها لأولاده عند السؤال اين ضاعت جنسيتي الأردنية او حتى سرد حكايات للوطن الذي يشتاق له بعدما أمضى العمر في متاهات الزمن والغربة وماذا سيفعل أولاده من بعده ...نعم لديهم وطن يعيشون فيه لكن فقدوا وطننا ينتمون اليه بحق.
الذي يجب فعله وما هو متوقع من صاحب قرار جريء حكيم مثل دولة الرئيس الخصاونة بناء جسور الاستقطاب لكفاءتنا الاردنية في المهجر وتذليل الصّعاب لهم ومنحهم فرصة خدمة وطنهم من مختلف الجهات والوجهات فصاحب القرار في وطني لابد له أن يرخي جدائل التعليمات والقوانين القديمة والجامدة ويغري بها المغتربين المحبّين لما فيه صالح الأردن ومستقبله لان أسلوب الجذب والاستقطاب علامة من علامات النجاح في أفق السياسة. كان معروفا ان وصفي التل - رمحنا- كان يتصل بالدارسين في الخارج ويحثهم على العودة للمشاركة في بناء الوطن ورغم ان الدنيا تغيرت لكن الكرام في دمهم تجري السجايا الطيبة ومرجعهم إلى الثرى الطاهر في وطنهم.