هذه حادثة وقعت قبل تخرجي بأسبوع .. كنت أعرف طالباً في الجامعة معرفة سطحية زاره ابوهُ على الجامعة للألتقاء به ولكي يعطيه مبلغاً من المال ؛ كون ابنه في السنة الأولى، فعندما دخلت بوابة الجامعة ، و كنت وقتها معلماً أتدرب في المدارس (تطبيقا عمليا ) كوني على أبواب التخرج ، نادى عليَّ أحد رجال الأمن الجامعي ليسألني عن ابن هذا الرجل الذي يبدو في العقد السبعين من عمره ، فعرفت الطالب وطلبوا مني الأتيان به للألتقاء بوالده .
أخذني والد الطالب جانباً، وقال : " يا أبني، لا تقل له أن أباك ينتظرك !!! فهو لا يحدثني بل يقاطعني منذ سنوات؛ لأنني تزوجت بعد وفاة أمه بأشهر، مما دعا إلى غضبه وأخوته مني وقاطعوني وترك أبني الصغير البيت وذهب عند شقيقه الكبير الذي هو الآخر لا يتحدث معي أيضاً ، حيث اشترطوا عليَّ أبنائي الذكور الأربعة أن أقوم بتوزيع الميراث عليهم فقط وهي أرض مغرية في السعر مساحتها (٣٠ )دونم تورثتها من والدي و لكنني رفضت بحجة أنني ما زلت على قيد الحياة و شقيقتهم متزوجة من رجل فقير يتقاضى راتباً لا يتجاوز (١٥٠) ديناراً وله أبناء في الجامعة و لا يجوز حرمان ابنتي وزوجتي الجديدة من الميراث، فأنا ليس لي دخل إلا راتبي التقاعدي (٢٤٠) ديناراً جراء عملي في أحد الشركات ، حيث أساعد منه أبنتي المتزوجة التي تعاني الفقر بسبب دراسة أبنائها في الجامعة - أريدك يا إبني أن تخفي هذه الأمور عن إبني وتتذرع أنك لا تعلم شيئاً و أن تأتي به بأسلوبك كي أعطيه مبلغ (١٠٠ ) دينار مصروفاً له لأنه طالب جديد سنة أولى و يمتنع عن زيارتي وقبول أي مبالغ مني .
شعرت بالحزن الشديد لموقف الختيار و ذهبت وبحثت عن إبنه بعدما ادخلت الختيار ساحة الجامعة وأحضرت له كاسة شاي أقسم وقتها على أن يدفع ثمنها قائلاً :" أنت طالب ومصروفك قليل وكأن الختيار شعر بفقري وعوزي من ملابسي وكونه شاهدني وأنا آتي إلى الجامعة مشياً على الأقدام والعرق يتصبب من جبيني " .
كان الختيار على حق في تخمينه فقد استقرضت مبلغ دينار من زميلي لكي أقوم بضيافته ، فأعطاني الختيار مبلغ( ٥) دنانير ثمن كاسة الشاي وكان ثمنها في ذلك الوقت (١٠) قروش واشتريت له سندويشه وبسكويت، فلما ارجعت له الباقي (٤) دنانير رفض وأقسم بعدم أخذها قائلاً :" لا تخليني اغضب منك أنا رجل كبير وحلفت ما بصير تكسفني " فلما شاهدت الحاحه اخذتها ورجعت لزميلي الدينار .
وكم كانت صدمتي كبيرة عندما ابلغت إبنه، الذي كان للتو خارجاً من قاعة المحاضرات ، فقد تغير وجهه وأحمر وبدا الغضب على ملامح وجهه ، مردداً :" شو إلي جاب هالختيار على الجامعة ، هو ما بفهم إحنا اتفقنا ما نحكي معاه ونقاطعه " .
سحبت زميلي من قميصه ، وقلت له :" هذا أبوك يا محترم!!! بدك تيجي غصباً عنك وتشوفه شو بده "، فرد عليّ قائلاً : نزل إيدك لا اكسرها لك هلا بروح وبفرجيك شو راح أعمل فيه !!!
فقلت له محذراً :" دير بالك تسيء لوالدك راح ازعلك روح خذ منه (١٠٠ )دينار مصروف لك و سلم عليه أمام الطلاب كونه والدك وأرجع انقلع هو مش رايح يعطلك عن دوامك هو راجع في الباص لمحافظته .
ذهب زميلي إلى والده مسرعاً وهو يشتاط غضباً وأنا أمشي خلفه، فلما وصل قام الوالد ونهض وهو يبتسم ويريد معانقة إبنه ، إلا أن الإبن سرعان ما تلفظ على والده بألفاظ شنيعة قائلاً :" لا عمرك تيجيني على الجامعة و لا تعطيني مصروف مش بحاجة الك ، شقيقي الكبير ما بقصر معي ما بدنا من ورثتك شيء أعطيها للغريب ينبسط فيها .
وقتها كنت ادفعه بيدي قائلاً له :" أنت ابن مش مربى وبدي هلا أربيك فتعاركنا بالأيدي وقام بضربي على رأسي ، فوقعت على الأرض والدم ينزل من أنفي ، و قام أمن الجامعة و الطلبة بفض الشجار بيننا عندها لم يتحدث الختيار بأي كلمة والتزم الصمت وهو يبكي بحرقة على الموقف المحرج .
وغادر الختيار على عجل بعد أن شكرني على موقفي واعطاني ال (١٠٠) دينار جراء تسامحي مع ضربة إبنه على رأسي ، فرفضت ولكنه ألح عليَّ وأخذتها، فطلبت منه البقاء عندي في غرفتي و لكنه رفض وأقسم أن لا يزور إبنه بعد ذلك الموقف .
بعد هذا الموقف بأسبوع تخرجت من الجامعة ودفعت من ال (١٠٠)ينار رسوم الشهادة الجامعية وتكاليف التخريج .
مرت ثلاث سنوات على تخرجي من الجامعة ، قررت أن أزور الجامعة وسألت زميلي في السنة الرابعة آنذاك عن ذلك الإبن العاق ، لكي أعطيه ال ١٠٠ دينار حتى يرجعها لوالده كوني تعينت في ملاك وزارة التربية والتعليم ، فقال : " ذلك الطالب لم يستكمل الدراسة، حيث أصيب في السنة الثانية بفشل كلوي وحدثت معه مضاعفات و مات و أن والده بعد وفاه إبنه الصغير أعطى الورثة للأبناء الذكور بعدما تنازلت زوجته الجديدة وابنته عن الورثة " .
وبعد مرور (٢٢) سنة تحدثت مع ذلك الزميل الذي يدرس في أحد الدول الخليجية عن الوالد وابنائه فقال :" يا يوسف، لقد حدث شيء يجعل الحليم فيه حيرانٌ وهو أن الختيار توفاه الله كما أن أبناءه الآخرين فارقوا الحياه بعدما مرضوا وتعرضوا لخسائر في تجارتهم بعد أن فتح الله عليهم من الرزق الوفير جراء بيعهم أرض الختيار ب(١٠٠ )الف دينار وقيامهم بفتح مشاريع ،حيث بداية حصلوا من خلال تلك المشاريع على المال الوفير ولكن سرعان ما انكسرت مشاريعهم كأنكسار العظم في اللحم بينما أبناء الشقيقة الفقيرة التي تنازلت عن الميراث اصبحوا اطباء ومهندسين في دول عربية وأوروبية . وقتها أصابتني العبرة وأجهشت بالبكاء وأغلقت الهاتف وأنا اردد :" سبحان الله !!! أن الله يمهل ولا يهمل" . و بعدها بزمن قصير قمت بتوزيع مئة دينار عن روح الختيار الذي اعطاني المئة دينار قبل (٢٢) سنة عرفاناً لجميل عطائه و من باب عدم نكران الجميل .