تطبيق القرار 2254 وإجراء حوار سوري سوري فوراً هو الحل الوحيد والصبر بدأ ينفذ.
الكاتب والمحلل السياسي/ رامي الشاعر
في أول تقدم على الأرض تحققه فصائل المعارضة السورية المسلحة منذ مارس 2020، بعد أن تمكنت مجموعة أستانا (روسيا وتركيا وإيران) من التوصل لوقف إطلاق النار على كافة الأراضي السورية، وإنشاء مناطق خفض التصعيد، شنت تلك الفصائل هجوما، الأربعاء الماضي، اجتاحت خلاله 12 بلدة وقرية في محافظة حلب شمال غربي البلاد.
لم يكن دخول حلب والسيطرة عليها بالسهولة والدراماتيكية التي تحدث عنها البعض، ولم تكن الأرض ممهدة على النحو الذي ذهب فيه البعض إلى اتهام الجيش العربي السوري بالانسحاب غير المنظم، وإنما كان الهجوم بمثابة عملية كبرى، دعمتها حاضنة شعبية أسهمت في نجاح العملية بهذه السرعة.
كان تعليق الكرملين على لسان المتحدث الرسمي دميتري بيسكوف واضحا لا لبس فيه، واعتبر عملية حلب "تعديا على السيادة السورية"، وهو محق وأتفق معه، فأي استخدام للسلاح خارج إطار الشرعية الدستورية في أي دولة هو تعد على سيادة الدولة ووحدة أراضيها والجمهورية العربية السورية ليست استثناء.
لكن ما يجب وضعه في الاعتبار هنا هو حالة الاحتقان من الأوضاع الراهنة في البلاد، ما جعل المواطنين البسطاء متعطشين لأي رياح تغيير تأتي من أي جبهة، بصرف النظر عن أيديولوجيتها أو سياساتها أو مصادر تمويلها أو أي شيء. فالشعب البسيط يعيش حالة من الجحيم المستمر الذي تسهم في إشعاله العقوبات الغربية بقيادة الولايات المتحدة، فلا تدفئة ولا مواصلات في ظل انتشار الجوع والفقر والمرض، وافتقار للحد الأدنى من متطلبات الحياة.
هناك حالة احتقان عامة في الشارع السوري، وضاق الشعب من شمال وجنوب سوريا ذرعا بالوضع الحالي، الذي يتحمل مسؤوليته بالدرجة الأولى النظام الحالي الحاكم في عموم سوريا، لهذا يبحث الناس عن أي بارقة أمل وأي مخرج من الوضع وأي منقذ من الكارثة الحالية. وهنا تظهر المعارضة، بصرف النظر عن مضمونها الأيديولوجي والسياسي، وأحياناً حتى بصرف النظر عن الوسائل التي يمكن أن تتجاوز الدستور وتخرج عن الشرعية، فيلتف حولها البسطاء بحثاً عن ضوء في نهاية النفق، إلا أن المخرج من الأزمة السورية لن يكون، وكما كررت وأكرر ولن أتوقف عن التكرار، سوى بالعودة إلى ما نص عليه قرار مجلس الأمن رقم 2254، ومخرجات مؤتمر سوتشي للحوار الوطني السوري السوري عام 2018.
لقد طال انتظار عامة الشعب السوري للحل، وتدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي في البلاد ومرشح للتدهور أكثر وأكثر، في حين أن الوضع كارثي بالفعل. ولم تعد القضية اليوم هي قضية جبهة النصرة أو هيئة تحرير الشام أو أيا ما كان مسمى الفصائل والكتائب والألوية وأطياف المعارضة المختلفة، ولم تعد القضية قضية "دور المرأة" أو درجة "أسلمة" أو "علمنة" الدولة السورية، ولم تعد القضية كذلك قضية الأسد أو "البعث" أو "العلويين"، بل أصبحت القضية قضية ماء وغذاء وطاقة ومواصلات وتعليم وصحة وحد أدنى يوفر للأطفال نموا طبيعيا ويحمي مستقبل البلاد والشعب من الفوضى والانقراض والاندثار، إن القضية أصبحت قضية وجود الدولة السورية بالأساس، القضية أصبحت رغبة 7 ملايين سوري على أقل تقدير، يرغبون بصدق، إلى جانب غيرهم من المواطنين السوريين، في إيجاد مخرج وحل للوضع المأساوي الراهن الذي لم يعد يحتمل على الإطلاق.
وما يجري اليوم على الأرض في الشمال السوري هو النتيجة المنطقية والطبيعية لمماطلة النظام في دمشق في التجاوب مع عملية الانتقال السلمي للسلطة، والحوار مع جميع مكونات الشعب السوري، وضم الجميع تحت مظلة سوريا الموحدة التي تعيش في أمن وأمان واستقرار وعلاقات حسن جوار. ولقد بذلت روسيا كل ما بوسعها من خلال مجموعة دول أستانا، ومن خلال أكثر من إعلان عن استعدادها لاستقبال محادثات ثنائية رفيعة المستوى، وإسهامها الفعلي في حوارات المعارضة السورية والنظام، وغيرها من الفعاليات التي انتهت، مع الأسف الشديد، دون إحراز النتائج المرجوة، برغم أن الحد الأدنى، وهو الوصول إلى نظام التهدئة ووقف إطلاق النار، قد تم الوصول إليه، ولكن بهدف أن نصل إلى نضج العامل السوري الداخلي لبدء الانتقال السلمي إلى دستور جديد ونظام حكم يستوعب الجميع.
أما الحديث عما يسمونه "قصف الطيران الروسي للمناطق التي تسيطر عليها المعارضة"، فهو أمر عار عن الصحة بالجملة، فروسيا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتدخل في تطورات الأحداث بسوريا ضد إرادة الشعب السوري، ولكن يمكنها فقط أن تساعد في مكافحة الإرهاب واستعادة النظام بتوفير الدعم لاستهداف أي أنشطة إرهابية وتنظيمات مدرجة على قوائم التنظيمات الإرهابية المصنفة وفقا لقرارات مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة.
وأحداث حلب، فيما أعتقد وأتصور، لا يمكن تصنيفها بـ "الأنشطة الإرهابية"، أو أن قوى وتحريضات "تركية" تقف وراءها، بل على العكس، أظن أن مماطلة النظام في دمشق هي ما تسببت في ذلك الاحتقان، وفي تعزيز تلك الحاضنة الشعبية التي استقبلت المعارضة المسلحة على هذا النحو. كذلك أعتقد أن المماطلة من قبل القيادة في دمشق في الاستجابة لمبادرة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لعقد لقاء مع الرئيس السوري بشار الأسد، ساعدت على تدهور الوضع الراهن، المرشح للتدهور أكثر من ذلك.
أتمنى أن يمارس الجميع أقصى درجات ضبط النفس، وأن يحتكم الجميع إلى قرارات مجلس الأمن الدولي والشرعية الدولية ومخرجات الحوار الوطني وقرارات مجموعة أستانا، وأن يبدأ الجميع حوارات تشمل جميع فئات الشعب السوري لتفادي نشوب حرب أهلية طائفية تحرق الأخضر واليابس، وتكون نتائجها كارثية على الجميع. وأنا على ثقة أن غالبية الشعب السوري الأبي العزيز سليل الحضارات والثقافات المتنوعة والمختلفة والموغلة في عمق التاريخ، بجميع أطيافه وخلفياته وتنوع أيديولوجياته، يتوقون فعلياً للانتقال السياسي السلمي للسلطة في إطار نظام يشارك فيه الجميع، ويحترم الجميع، ويضم الجميع تحت مظلته، لإعادة بناء سوريا وعودتها لمكانتها الطبيعية بين الأمم.
وأؤكد هنا أن روسيا لا تنحاز إلى طرف على حساب أطراف أخرى، وإنما تنحاز إلى الشعب السوري وحده، وإلى إرادة الشعب المعلم الذي ضحى بدماء أبنائه، وسطر صفحات من تاريخ ناصع البياض، دفاعاً عن استقلاله وحريته وسيادته ووحدة أراضيه. وتصريحات الكرملين ووزارة الخارجية الروسية تشدد على أن سوريا للجميع وبالجميع ومن أجل الجميع، وروسيا تدعم القيادة الشرعية السورية، وقد عبرت عن قلقها بخصوص الأحداث الأخيرة، ودعت جميع الأطراف إلى العودة إلى نظام التهدئة، ووقف إطلاق النار، والجلوس الفوري إلى طاولة المفاوضات بين المعارضة والفصائل المسلحة والنظام في دمشق للبدء في ترتيب عملية الانتقال الفوري للنظام الجديد في سوريا، وهو ما يقرره السوريون بأنفسهم. وهذا هو موقف روسيا المتسق مع موقف الشرعية الدولية ممثلة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
في رأيي المتواضع أتصور أن الانتقال الفوري يمكن من خلال تشكيل هيئة انتقالية ميدانية تدير شؤون البلاد، يشارك فيها ممثلون عن النظام والمعارضة والتنظيمات المسلحة، تساعد مجموعة دول أستانا لترتيب عملية البدء بالانتقال السياسي السلمي والتعديل الدستوري والإشراف على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وأنا على يقين من أن روسيا سوف تتجاوب مع كل ما يتفق عليه السوريون لإنقاذ بلدهم وإنهاء أزمتهم.
بالطبع فإن الحل النموذجي الذي طالما دعوت له في سلسلة من المقالات السابقة هو البدء الفوري بتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254، والاجتماع الفوري للجنة الدستورية لإجراء تعديلات على الدستور تسمح بمشاركة جميع مكونات الشعب السوري العرقية والطائفية بشكل متساو في السلطة التنفيذية والتشريعية والقضاء، وتحديد أنظمة حكم لا مركزية في بعض المناطق تمنح للسكان حقوقهم وحرياتهم، وتسمح لهم بممارسة حياتهم ومكونات ثقافتهم بحرية ودون تمييز، وتربطهم في الوقت نفسه بسلطة الدولة المركزية. إلا أن الظروف والأحداث الراهنة المتلاحقة تتطلب تشكيل هيئة انتقالية ميدانية لوقف الاقتتال الآن وفوراً، ولا يعني ذلك أي تعد على شرعية النظام الحالي، وإنما هو مجرد مساهمة في حل الأزمة الراهنة.
أما ما يتردد الآن بشأن محاولة انقلاب في دمشق، أو إطلاق نار ببعض الأحياء، فكل تلك أخبار عارية عن الصحة، إلا أن عجز الأطراف عن الشروع فورا في عملية الانتقال السلمي يهدد باندلاع الفوضى الشاملة في سوريا، وهو أمر لو تعلمون عظيم، سيؤثر على المنطقة بأسرها.
فيما يخص مزاعم وصول الأسد إلى موسكو في "رحلة سرية"، و"عودته من رحلته السرية"، أقترح عدم الالتفات إلى وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المشبوهة، واستقاء المعلومات من الجهات الرسمية وحدها، وروسيا لا تخفي أبداً أي تعامل لها مع جميع مكونات الطيف السياسي السوري، وقطعاً لن تخفي تعاملها مع الرئيس الشرعي للبلاد بشار الأسد، ولو قدم الرئيس الأسد إلى موسكو، فسيتم استقباله بالطبع حسب تقاليد البروتوكولات الخاصة بزيارة الرؤساء.
لقد مر على اندلاع الحرب الأهلية في سوريا أكثر من ثلاثة عشر عاما، تغيّر فيها العالم، وتلوّن بألوان جديدة مختلفة، وتبدلت التوازنات ولا زالت تتبدل استعداداً لبزوغ شمس العالم الجديد متعدد الأقطاب، حيث تظهر اليوم مصالح قطاع جديد من الدول في جنوب شرق آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية فيما يسمى بـ "الجنوب العالمي"، وتبرز أدوار منظمات ومجموعات على غرار مجموعة "بريكس" ومنظمة شنغهاي للتعاون، وهو ما يجعل التعامل بنفس المعايير مع نفس الظواهر أمرا لا يواكب التطور، ولا يتفاعل مع الأحداث. لذلك، وبرأيي الشخصي المتواضع، أرى ضرورة إعادة النظر في قضية مفهوم وتصنيف التنظيمات الإرهابية، لأن الفترة الزمنية الممتدة للأزمة السورية والوضع الكارثي للبلاد، دفعت بأجيال من الشباب نحو اليأس والتطرف، وأصبح من الواجب علينا اليوم أن نتفهم دوافع ونوايا الشباب الذين يلجؤون أحياناً إلى أساليب متطرفة وربما "إرهابية" لتحقيق أهداف معينة.
يجب إعطاء فرصة لهذا الجيل الجديد كي يستوعب المصالح العليا للبلاد، وأن يفهم المعنى العميق لمفهوم "الوطن" و"الوطنية"، وألا نستخدم الحلول الأمنية وحدها بالتحييد والتصفية الجسدية والاعتقال، بل نضيف إليها إمكانية الحوار والمراجعة والتوبة واستخدام الفكر المضاد، وغيرها من أدوات الحرب الفكرية، التي طالما استخدمها العدو في تجنيد شباب الأمة.