كتبت نجلاء المدانات تقول: أنهيت دراستي الثانوية في مدرسة الزرقاء الثانوية واجتزت فحص الدراسة الثانوية العامة "التوجيهي" بنجاح عام 1959، وجَرى تعييني معلّمة في الكرك بعد ذلك، ولكنّي اعتذرت لرغبتي بالعمل في الزرقاء، وبقيت أنتظر دون عمل عاماً كاملاً، ثم طُلبت للعمل في بلدة عَيّْ-الكرك في العام التالي 1961، فقبلت على الفور، مع العلم بأن الذي يعمل في منطقة خارج مكان إقامته وبالذات في جنوب المملكة كان يتقاضى علاوة مقدارها خمسة دنانير.
رافقتني والدتي رحمها الله الى عَيّْ مثل أمهات بعض المعلمات الاخريات اللواتي تم تعيينهن حيث كُنَّ الى جانب بناتهنّ أيضاً. وقد سكنت حال وصولي في غرفة تابعة لمنزل السيّد الفاضل سفهان الرواشدة (الحاج أبو نصري). لم نشعر بالغربة أبداً فقد كان الحاج أبو نصري وعائلته يعاملونا كأفراد من عائلتهم، ويحرصون على راحتنا وأمننا أيضاً. حتى الطعام فقد كانوا يتقاسمونه معنا، ويوقدون لنا النار وقت البرد والشتاء. ومِن المعلمات زميلاتي اللواتي كُنّ معي، شعاع القسوس- المديرة، نبيهة بقاعين، سلافة التكروي، فيوليت شرايحة، إيفون الصنّاع وعبلة الكواليت- "إبنة عمتي".
كان عدد الطالبات قليلاً، وجميعهنّ كُنَّ في غاية الأدب والأخلاق والترتيب والنظافة. وكان أعلى صف في المدرسة حينذاك الصّف الخامس الابتدائي حيث كان يضاف صف جديد كل سنة. كان موقع المدرسة الى جانب مركز الشرطة، أما مكتب البريد فكان في أحد دكاكين البلدة وربما الدكان الوحيد فيها. ولم نكن نتردد كثيراً على البريد بسبب تجمّع معظم شباب عيّ في ذلك الدكان (ربما رغبّة من بعضهم في رؤية المعلمات إذا صدف وجاءت لحاجة ما).
كان المرحوم الاستاذ ماجد أبو شرار مدير مدرسة البنين المجاورة، ومن المعلمين، أذكر الاستاذ خازر الهلسة، والاستاذ زهير بقاعين وآخرين، أما مدير التربية والتعليم أنذاك فكان المرحوم الاستاذ داوود المجالي.
لن أنسى تلك الأيام الجميلة وطيبة أهل عَيّْ وكرمهم، حيث كانوا دائماً يرسلون لنا سِلال البيض والخضار والفواكه، وكانوا يدعوننا إلى منازلهم ويقدمون لنا المنسف ويغلقون باب الغرفة علينا لكي نأخذ راحتنا من دون إحراج. أما تلاميذ المدرسة فكانوا يترصدون لنا حين نخرج للتنزه وقت الربيع، ويرشون طريقنا بالعطور، دونما التعرض لنا بأية كلمة جارحة أو خارجة عن المقبول، حيث كانوا يختبئون خلف الاشجار والصخور، وبعضهم كانوا يعبرون عن إعجابهم ببعض المعلمات بالكتابة بالطباشير على حيطان البيوت- لكنّ أهاليهم لم يكونوا يقصّرون في ردعهم وتأديبهم.
ثلاث سنوات قضيتها في عيّْ كانت من أجمل سنوات العمر، رغم كل مصاعبها، بعيدة عن الأهل والعائلة، فلا مواصلات منتظمة ولا شوارع معبّدة، ولا مكتبة أو أماكن تسليّة، ولا ولا ولا..... الخ.
وفي مطلع العام الدراسي 1963/1964، تم نقلي الى بلدة مؤتة في الكرك مديرةً لمدرسة البنات، وكنت قد خُطبت الى زوجي الاستاذ نسيم المدانات أثناء عملي في عَيّْ، وكان أنذاك مدرساً للغة الانجليزية في مدرسة الكرك الثانوية وتم نقله الى مدرسة الطفيلة الثانوية، وبعدها التحق للعمل مع شركة أرامكو. وتزوجنا عام 1964 ثم سافرت وزوجي للسعودية مع انتقال عمله هناك في شركة أرامكو. وفي نهاية عام 1970 عُدنا الى الاردن، وعملت كمعلمة في المرحلة الابتدائية في المدرسة الاهلية للبنات بعمّان- وهي أقدم وأعرق مدرسة خاصة ثانوية للبنات في الاردن تأسست عام 1926. وعاصرت مديراتها الاربع، السيّدة وداد بولص، ومدام بشوتي، والسيدة زينة شرايحة، ومعالي السيّدة هيفاء النجّار. تخللها فترة انقطاع عن التعليم لمدة ثلاث سنوات أقمت فيها بتونس إلى جانب زوجي. وقد كان من طالباتي في الاهلية سمو الأميرات نافعة ورجوة وبسمة علي، وعالية الطباع وفرح الداغستاني، والكثيرات من الطالبات اللواتي أفتخر بهن جميعا. ومنهن من تقلدن مواقع رسميّة في الحكومة مثل ياسرة غوشة وهالة لطّوف وماري قعوار، وأخريات كّثر من خريجات الأهليّة للبنات.
ولكنّ ذكريات عَيّْ تبقى راسخة في الذاكرة الى مالا نهاية.