في زمن تتشابك فيه الهويات الثقافية والاجتماعية، يبرز المفكر السوداني غسان علي عثمان كأحد أبرز الأسماء التي تحمل لواء نقد الواقع الفكري والاجتماعي. هو ليس فقط كاتبًا أو باحثًا، بل هو صانع رؤى وطريق، صاحب مشروع فكري لا يقتصر على توجيه النقد بل أيضًا على تقديم حلول جذرية للقضايا المتأصلة في هوية السودان المعاصرة.
مشروعه الثقافي:
غسان علي عثمان، الذي اشتُهر بمساعيه الحثيثة في مجال الفلسفة وعلم الاجتماع، قدم لمجتمعنا العربي والمجتمع السوداني تحديدًا أطروحات تتجاوز المألوف، ليتناول فيها قضايا الهوية السودانية بعين نقدية عميقة. لم يكن مشروعه الثقافي مجرد محاولة لفهم الماضي وحل قضاياه، بل كان نقاشًا مفتوحًا حول جغرافيا الفكر الاجتماعي وتفاعلها مع الأرض السودانية على مرّ العصور.
في أعماله، ينقضّ غسان على القضايا الشائكة التي كثيرًا ما كان يتم التغاضي عنها. لا يكتفي فقط بتحليل الماضي، بل يفتح أبوابًا جديدة للبحث في المستقبل. كيف يمكن لثقافة بلد عريق مثل السودان أن يجد ذاته وسط العولمة؟ كيف يمكن للمجتمع السوداني أن يعيد اكتشاف نفسه في ظل التحديات الداخلية والخارجية؟ هذه الأسئلة وغيرها كانت بمثابة بوابات لدخول غسان إلى عمق الفكر السوداني، ليعيد تأصيله عبر إعادة التفكير في مفهوم الهوية.
أطروحاته الراديكالية:
غسان، الذي يُعتبر من أبرز المفكرين السودانيين المعاصرين، قدم أطروحات تُعد راديكالية في بعض جوانبها، لكنها تحمل قوة نقدية لا يمكن تجاهلها. في كتابه الأشهر "عنف النخبة - قراءة في جذور التكوين والامتياز"، يتناول فكرة "النخبة" التي تسيطر على مقدرات المجتمع، وكيف أن هذه النخب - التي قد تكون عائلية أو سياسية - قد تساهم في تثبيط حركة المجتمع بدلًا من دفعه للأمام. هذه الأطروحات، رغم ما تحمله من تحديات، هي دعوة للتغيير الجذري.
ليس ذلك فحسب، بل يسعى غسان من خلال مشروعه الثقافي إلى فتح باب الحوار حول القيم السودانية الأصيلة، ومناقشة كيفية تطويع هذه القيم مع معطيات العصر الحديث. هو يُحاول استنباط حلول من داخل الواقع السوداني، وفي الوقت نفسه يعكس تفكيرًا نقديًا يعترف بالمشاكل الاجتماعية ويسعى لحلها بطريقة ثقافية وحضارية.
الهوية السودانية في مواجهة العولمة:
غسان لا يقتصر على دراسة التحديات الفكرية المحلية فقط، بل يوجه انتقادات حادة أيضًا للهيمنة الثقافية الغربية التي بدأت تطغى على القيم السودانية. هو يدعو إلى عدم الانغماس في العولمة التي قد تذوب الهويات الثقافية، بل إلى التفاعل معها بما يحفظ خصوصية الثقافة السودانية من الضياع.
في حديثه عن الهوية السودانية، يطرح غسان سؤالًا جوهريًا: "هل نحن قادرون على أن نحيا بين الماضي والمستقبل دون أن نفقد أنفسنا في هذا الصراع الدائم؟". وهذا السؤال يظل مفتوحًا ليكون محركًا دائمًا للحوار بين الأجيال الشابة من المفكرين والمثقفين الذين يسعون لتكوين قاعدة فكرية صلبة تستطيع أن تواكب تغيرات العالم.
التأثير الثقافي والفكري:
عبر برامجه الإعلامية وكتاباته الأكاديمية، ترك غسان علي عثمان بصمة واضحة على الساحة الثقافية السودانية. برنامجه الشهير "الوراق" الذي يعرض على قناة "سودانية 24"، يعد منبراً لفتح النقاشات الفكرية المعقدة بطريقة سلسة وبسيطة، مما يتيح للجمهور التفاعل مع قضايا الهوية والنقد الاجتماعي.
غسان، الذي يعمل من أجل إحياء الفكر النقدي المستقل في السودان، يؤكد في كل مناسبة على أهمية أن يكون المثقف جزءًا من معركة بناء المجتمع وليس مجرد متفرج. هو لا يتوانى في تقديم نقد بنّاء للواقع السوداني، لكنه في ذات الوقت يسعى ليكون جزءًا من الحلول التي يمكن أن تؤدي إلى التغيير المطلوب.
غسان علي عثمان هو أحد أبرز المفكرين السودانيين الذين أثّروا بشكل كبير في الثقافة السودانية الحديثة، بكتاباته وأطروحاته التي تحدّت الأساطير والحقائق الراسخة. هو بمثابة صوت العقل في زمن يعج بالتحديات الفكرية والاجتماعية. من خلال مشروعه الثقافي، يثبت غسان أن الفكر السوداني ليس فقط قادرًا على التفوق، بل هو قادر على وضع رؤية جديدة للمستقبل تستند إلى تراثه العميق وأصالته الفكرية.
يستحق غسان علي عثمان أن يُحفظ في الذاكرة السودانية كمفكر من الطراز الرفيع، رائد في معركة الهوية والثقافة، وأن تظل أعماله علامة فارقة في مسيرة الفكر العربي.