مع بداية كل عام دراسي، تتجدّد الأحلام في أعين الأطفال، وتُفتح صفحات بيضاء تنتظر حروفًا تصوغ مستقبلهم. غير أنّ خلف جدران بعض الصفوف، يقبع أطفال مثقلون بما لا تطيقه أعمارهم الصغيرة؛ أطفال لم تُتح لهم حياة رغدة ولا وسائل راحة، بل شدّت عليهم قبضة الفقر حتى ضاقت بهم السبل، فتأخروا عن شراء مستلزماتهم أو عجزوا عن امتلاك أبسط أدوات الدراسة.
إنّ الفقر لا يسرق من الطفل مجرد قلم أو دفتر، بل قد يسلبه ثقته بنفسه، ويزرع في داخله شعورًا بالنقص أمام زملائه. ومن بين هؤلاء الصغار، تبرز معاناة الأيتام، الذين حُرموا من دفء الأب أو حنان الأم، ليجدوا أنفسهم في مواجهة واقع اقتصادي قاسٍ يفوق طاقتهم. الطفل اليتيم حين يعجز عن مواكبة زملائه في أبسط التفاصيل، كشراء حقيبة جديدة أو لباس مدرسي لائق، فإنّ قلبه يتصدع، وقد تنعكس هذه الفجوة المادية على تركيزه وأدائه الدراسي.
وقد عظّم الإسلام شأن اليتيم، وجعل رعايته أمانة عظيمة ووسيلة لرضوان الله. قال تعالى:
وبشّر النبي ﷺ كافل اليتيم بمكانة رفيعة يوم القيامة فقال: "أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين" وأشار بالسبابة والوسطى (رواه البخاري).
إنّ الأوضاع الاقتصادية الهشّة لا تنحصر في حدود المنزل، بل تدخل الصفوف وتلقي بظلالها على الحصص، فتضعف عزيمة الطالب وتشتت ذهنه. لكنّ هنا يبرز الدور الجوهري للمعلّم؛ فالمعلّم ليس ناقل معرفة فحسب، بل هو راعٍ للقلوب قبل العقول. حين يبتسم المعلم للطفل اليتيم، ويعامله بعطف يداوي جراحه، وحين يغضّ الطرف عن نقصٍ مادي، ويركّز على ما يملك الطفل من قدرات وإبداع، فإنه يُعيد إليه توازنه ويزرع فيه الثقة من جديد.
لقد أثبتت التجارب أن الكلمة الطيبة قد تعادل في أثرها ثمن حقيبة جديدة، وأن التشجيع الصادق قد يعوّض عن نقص كتاب أو زيّ مدرسي. وما أجمل أن يبادر المعلم إلى غرس روح التكافل بين الطلاب أنفسهم، فيُعلّمهم أنّ قيمة الإنسان لا تُقاس بما يملك من أدوات، بل بما يملكه من خلقٍ وموهبةٍ ونورٍ داخلي.
إنّ مسؤوليتنا جميعًا، كمجتمع تربوي وأسرة إنسانية واحدة، أن نمدّ أيدينا لهؤلاء الأطفال، وخصوصًا الأيتام، فلا نتركهم فرائس لوطأة الفقر. فالتعليم ليس رفاهية تُمنح للقادرين وحدهم، بل هو حق أصيل لكل طفل، ونافذة خلاصه من قيود الحاجة إلى آفاق الكرامة والحرية.
لنجعل من مدارسنا ملاذًا للرحمة، ولنجعل من قلوبنا جسورًا تعبر بها هذه الأرواح الصغيرة نحو مستقبل أوسع. فربما كانت ابتسامة معلّم، أو كلمة دعم صادقة، أو التفاتة إنسانية في لحظة ضعف، كفيلة بأن تغيّر مسار حياة طفل يتيم، وتكتب له غدًا أكثر إشراقًا.