حين كانت تشرق الشمس على جبال السلط والسهول والتلال، كانت الأرض تعانق أبناءها كما لو أنهم جزء من ترابها. هناك، بين جبالها ووديانها، وموارسها وبيادرها، كبرنا ونحن نغني مع الحصادين ونعدو خلف طيور الحجل والعصافير التي كانت تبارك خطواتنا بأصواتها. لم تكن الحياة سهلة، لكنها كانت صافية، مليئة بالكدح والفرح النقي، حيث كل سنبلة تشهد على تعبنا، وكل حجر يروي حكاية أجدادنا. إحنا اولاد الأرض، ولاد الحراثين، نحمل سرها وعرقها في قلوبنا ما حيينا.
في تلك الأيام، لم يكن الطريق إلى الحقول مجرد عمل، بل كان عرسًا يوميًا؛ نرافق أهلنا بحماسة الأطفال، نضحك، نلهو، ونجمع الذكريات كما يجمع الفلاح حبّات القمح في يده. كانت أمهاتنا توقظنا قبل الفجر، فنهبّ من فرشنا كأننا على موعد مع العيد. هناك، على البيادر، كنا نكتشف معنى التضحية والانتماء، ونتعلم أن الأرض لا تبخل على من يخلص لها.
السلط لم تكن مجرد مدينة، بل كانت حياة كاملة؛ أصوات صياح الديوك وإيقاع حوافر الدواب في الشوارع، رائحة القش، أهازيج الحصادين، وضحكات الفلاحين الذين لا يعرفون الملل. في منتصف تموز، حين يشتد القيظ، كان التعب يذوب مع نكهة الخبز الطازج، ورائحة الزعتر، وصوتي وأنا أروي لكم حكايات ذلك الزمان.
ما زالت صور تلك الأيام محفورة في الذاكرة: أطفال يركضون خلف تطاير غبار التبن على البيدر خلف التراكتور والدراسة، رجال يرفعون أكياس القمح بفخر، نساء يجهزن الماء والخبز المشبع بالمحبة. كانت أبسط التفاصيل تعني الكثير، وكانت السلط بأحيائها ووديانها كتابًا مفتوحًا في الوطنية والكرامة.
اليوم، كلما عدت بذاكرتي إلى هناك، أشعر أنني أتنفس من روح الأرض من جديد. فمهما تغير الزمان، ستبقى جذورنا ضاربة في عمق هذه التربة، وسنبقى نحمل هويتنا بصوت واحد:
إحنا أبناء هالأردن، حرثنا وبذرنا وحصدنا… كنا صغار وصرنا كبار، إحنا أولاد الأرض… اولاد الحراثين.